”في مئويّته الأولى، يواجه لبنان خطراً حقيقياً قد يؤدّي إلى تغييرٍ جذري في وجهه الإنساني ورسالته الحضارية إن لم تتضافر الجهود لإنقاذه“.
بهذه العبارات عرض الدكتور الياس الوراق (رئيس جامعة البلمند)، الأزمة التعليمية في الجامعات الخاصة ضمن بيانٍ موحّدٍ صادر عن تجمّع الجامعات الإحدى عشرة، وذلك في لقاء عقد في مسرح بيار أبو خاطر في الجامعة اليسوعية يوم الأربعاء 22 تموز.
جاء هذا البيان بمثابة خطوة تضامنية بين الجامعات الخاصة بعدما أصدرت الجامعة اليسوعية في وقت سابق قراراً –تراجعت عنه فيما بعد– يُلزم الطلّاب بدفع قسم من القسط السنوي بالدولار على سعر المنصّة الالكترونية وإصدار الجامعة الأمريكية في بيروت قراراً يقضي بصرف أكثر من ٨٥٠ موظفاً تعسفياً.
كلا القرارين تبعهما غضب عمّالي-طلّابي تُرجم من خلال حملات طلابية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي (في ما يخص دولرة الأقساط) كذلك الدعوات للتظاهر أمام المركز الطبي التابع للجامعة الأميركية في بيروت (في ما يخص الصرف التعسّفي).
جاء تضامن الجامعات ”العريقة“ فيما بينها طبيعياً ومتوقّعاً، فالقطاع الخاص بحاجة إلى التكاتف لمواجهة غضب الطبقة العاملة، وإلاّ فكيف له أن يتصدّى لها؟
لم يكن هذا البيان إلا وسيلة لدى الجامعات الخاصة لتعفي نفسها من المسؤولية، حيث تلا هذه الخطوة هجوم عنيف من قبل بعض الطلاب والاداريين ضد كل من ينتقد قرارات إدارات هذه الجامعات، واصفين إياهم بالخونة والحزبيين ممن يريدون القضاء على أعرق جامعات لبنان ونظامه ووجهه الحضاري.
هذه اللّغة ليست غريبة أبداً، ففي كلّ مراحل تاريخ لبنان –القديم والمعاصر– كانت تلك اللغة تستهدف كل من ينتقد أسس النظام اللبناني.
في تاريخ لبنان القديم (الستّينات)، طرد أصحاب معامل غندور عدداً كبيراً من عمّالهم بصورة تعسّفية، مما أدى إلى إضراب عمّالي عام. حينها، اعتبرت الحكومة الإضراب مسيّساً، فاتهمت جهات خارجية بالوقوف وراء هذا التحرك بدلاً من الإصغاء لمطالب هؤلاء.
في تاريخ لبنان المعاصر (مع بداية انتفاضة ١٧ تشرين)، مع امتعاض الشارع من حكم المصرف وتنظيم الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات أمام المصرف المركزي، اتهمت بعض أحزاب السلطة المنتفضين بـ”الاندساس“ والتبعية لجهاتٍ خارجية تريد القضاء على ”النموذج اللبناني“.
وإذا كانت الشركات الكبيرة –مثل غندور– والمصارف جزءا من النظام، فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تعتبر الجامعات الخاصة نفسها جزءاً من النظام اللبناني الذي لا يمكن المساس به أبداً؟ ولماذا تعتبر وجودها من وجود لبنان ووجهه الإنساني والحضاري؟
التعليم الخاص في لبنان: امتداد لسلطة الانتداب وركن من أركان النظام اللبناني النيو-ليبرالي
”مدارسنا هي أماكن ذات امتياز، يمكن من خلالها إنقاذ لبنان والمنطقة…وإذا سقطت مدارسنا، سيُقتلع شعب بأكمله من جذوره…لذا علينا ضمان استمراريتها“.
هكذا عبّرت رئيسة مدرسة الكرمل الأم انطوانيت عويط عن أهمية المدارس المسيحية (التبشيرية) الفرنكوفونية في لبنان، عند لقائها بوزير خارجية فرنسا لودريان في زيارته للبنان هذا الأسبوع.
خطابها هذا يعيدنا الى فترة الانتداب الفرنسي [ما بين ١٩٢٠–١٩٤٠] حين كانت سياسة الدولة الفرنسية في لبنان– فيما يخصّ التعليم– تقوم على نبذ القطاع العام وتشجيع احتكار خدمة التعليم لدى المدارس/الجامعات الخاصة التبشيرية أو الأجنبية عموماً.
الدولة اللبنانية –تحت الانتداب الفرنسي– وعلى عكس كل البلاد المجاورة في حينها، لم تهتم بالتعليم بوصفه خدمة عامة لجميع المقيمين انّما تركته تحت إدارة القطاع الخاص الأجنبي البرجوازي.
يُشير تقرير للسيّد واصف بارودي (مدير التربية الوطنية) عام 1938 أنّ عدد التلامذة في القطاع الرسمي بلغ آنذاك حوالي ستّة عشر ألفًا (16.000)، يُقابلهم تسعين ألفًا (90.000) في القطاع الخاص الأجنبي والمحلّي. وهذه الأرقام محصورة بالتعليم الأساسي والثانوي، حيث أن التعليم العالي كان حكراً على القطاع الخاص حينها، فلم يكن هناك وجود بعد لجامعة وطنية رسمية.
يمكن تفسير السياسية الفرنسية على الأراضي اللبنانية أولاً باهتمامات الدولة الفرنسية حينها وتركيزها على تأمين مصالحها الاستعمارية والتجارية، فالتعليم ذو الجودة العالية عندما يكون بيد المُسْتَعْمِر، ما يُسهّل على الأخير ربط الشعب المُنْتَدَب بمشروعه وأهدافه التوسّعية.
ثانياً، التعليم يشكّل خطراً مستداماً عندما تناله الفئات الشعبية، فتعي حقوقها وواجباتها وتنتفض بوجه من يصادر أرضها وحرّيتها. لذا لم يكن اهتمام الإدارة الفرنسية ببناء المدارس في الجنوب والشمال وجبل لبنان، إنّما تركّز فقط على الطبقة البرجوازية في بيروت.
استمرّ هذا النهج بعد نيل لبنان استقلاله عام ١٩٤٣. صحيح أنّ الدولة أنشأت مدارس رسمية، الا أن التعليم ذو الجودة العالية بقي بيد المدارس الأجنبية أو المسيحية التبشيرية، حيث أن استثمار الدولة في القطاع التعليمي العام، لم يهدف إلى تطوير المستوى العلمي فيه انّما ارتكز على زيادة عدد المدارس فقط.
أمّا التعليم العالي، فبقي بيد الجامعات الخاصة حتى عام ١٩٥١، حيث أنشأت الجامعة الوطنية آنذاك على إثر ضغط وإضرابات متتالية نظمها عدد من طلّاب الجامعات الخاصة، على أنقاض إرادة إدارييها.
”مع إنشاء الجامعة الوطنية بالقوة، لم تتغيّر نظرة الدولة للتعليم، فبقي التعليم الرسمي مهملاً، كي تبقى الجامعات الخاصة البرجوازية هي المسيطرة“.
بهذه العبارات وصف لي الناشط في تكتل طلاب الجامعة اللبنانية الوضع المأساوي الذي تعيشه الجامعة اللبنانية. فهو يرى الجامعة اللبنانية مقراً للنظام اللبناني حيث يمارس فيه الأخير السياسات نفسها التي يمارسها على صعيد الوطن.
الجامعة اللبنانية، وفقاً للطالب، تمتلك قدرات علمية وأكاديمية هائلة، فيما الإدارة لا تسعى أبداً الى تطوير مستواها، فحجّتها الأقوى ضعف الميزانية المخصصة للجامعة، علماً أنها ليست ضئيلة مقارنة بميزانية جامعات من البلاد المجاورة، إنّما تقاعس الدولة عن ضبط الهدر فيها أدى إلى عدم فعاليتها.
”تريد الدولة إبقاء الجامعة الوطنية على ما هي عليه“ يقول الطالب، ويعطي مثالا أزمة إصرار الجامعة على اجراء الامتحانات حضوريا بالرغم من الوضع الصحي الراهن، فلو أرادت الدولة تنظيم عملية الامتحانات، لفعلتها انّما هي تنبذ الجامعة عمداً.
كما يعتبر الطالب ”تطوير الجامعة، وضبط الهدر فيها، وإنهاء الشبكات الزبائنية، ورفع مستواها يكبّل السلطة، فإذا توحّد الطلاب تحت صرح أكاديمي وطني متطوّر، قد يطيح هؤلاء بالنظام فكل ما تريده الدولة هو تقسيم الجامعة إلى ”كانتونات“ طائفية كي لا يستطيع الطلاب الاطاحة بالمنظومة الأوليغارشية“.
بالتالي، يمكن الاستنتاج أنّ التعليم العالي، ولو كان متاحا ”بالشكل“ للجميع، الا أنه عمليا ليس كذلك.
فالسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو النموذج الذي تريد الجامعات الخاصة ضمان استمراريته؟ هل هو نموذج إهمال الجامعة اللّبنانية؟ هل هو نموذج تقسيم الجامعة إلى قبائل طائفية حزبية؟ أم هل هو نموذج التحاصص والزبائنية؟
الجامعات الخاصة الأجنبية داخل الأراضي اللبنانية تمنع الطبقات الفقيرة من تحصيل حقهم في العلم، وتقف بوجه الجامعة اللبنانية، فيصبح التعليم امتيازاً وليس حقاً للجميع، فهذه الجامعات تمارس دورها في حماية النظام الاقتصادي، وتكريسه.
جامعات لبنان الخاصة: احدى ضمانات النظام الطائفي اللبناني وشريعة الغاب
”يمكنكم أن تتكلوا على فرنسا فنحن لن نسمح بانهيار قطاع التعليم ولاسيما المدارس الفرنكوفونية في لبنان ولن نترك الشباب اللبناني وحده بوجه هذه الازمة“.
بهذه الكلمات طمأن وزير خارجية فرنسا السلطة الأوليغارشية، في زيارته إلى لبنان. التعليم سيبقى بيدكم، ولا مساعدات للقطاع العام والجامعة اللبنانية، إنّما ١٥ مليون يورو للطبقة الميسورة. فكيف لفرنسا أن تحفظ رعاياها في الداخل إذا لم تقم بتلك الخطوات؟ كيف لفرنسا أن تحفظ النظام الطائفي إذا لم تقم بتلك الخطوات؟
عندما تتلقى الجامعات الدينية والمدارس الفرانكفونية مساعدات، فهي تعطي الشرعية لباقي الطوائف أن تسارع خلف رعاياها كي تبني مدارسها وجامعاتها ومستشفياتها الخاصة، فهي تعطي شرعية للنظام الطائفي النيو-ليبرالي بالاستمرار في تمويل قوى الاستعمار للقطاع الخاص الطائفي ونبذ القطاع العام، وتعزيز الطائفية ونبذ روح المواطنة، كذلك تكريس شريعة الغاب وحماية الفدرالية المبطّنة، والقضاء على الفقراء وحقّهم في الوصول إلى أبسط حقوقهم.
ها هو الاستعمار، وها هو الاحتلال، الذي لا يتجلّى فقط في هزم الجيوش واحتلال الأرض عسكريا إنّما أيضاً في الهيمنة الفكرية، ومنع المواطنين من بناء دولة علمانية لجميع المقيمين عليها.
لن نبني الدولة التي نحلم بها، إن لم نبنِ قطاعاً عاماً ومرافق عامة لجميع المواطنين، لن نبني هذه الدولة التي نحلم بها إن لم نقضِ على هذا النظام بأدواته، الطائفية والاقتصادية، أبداً.