إن السنوات الثلاث الأخيرة في لبنان كانت أشبه بقرن، إذ طرأ على البلاد العديد من الأحداث المفصلية. شهد لبنان في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 مظاهرات عمّت معظم المناطق اللبنانية، وتحولّت تدريجياً إلى انتفاضة تنادي بشكل أساسي بإسقاط المنظومة الحاكمة والنظام السياسي في البلاد، حيث توّج المتظاهرون تحركاتهم بشعار “كلن يعني كلن” مشيرين إلى كافة الأحزاب والزعامات الحاكمة. إلا أن وتيرة التظاهرات الشعبية كانت متفاوة، وخفتت تدريجيًا بعد مناورات عديدة من قبل السلطة السياسية.
ومنها (على سبيل التعداد لا الحصر) ورقة سعد الحريري الإصلاحية، استقالة الحريري، خطابات حسن نصرالله التحريضية والمعادية للاحتجاجات، غزوات مناصري وعناصر الأحزاب الحاكمة في العديد من المناطق اللبنانية، وأخيراً تعيين حسّان دياب في منصب رئيس الوزراء بعد تسويقه على أنه من خارج “نادي السلطة”. كما أن انعدام الإجماع لدى التنظيمات المشاركة في الانتفاضة على وجهة سياسية تتسّم بالوضوح أدى إلى إرباك كبير في صفوفها، وتضعضع في قدرتها على تعبئة المتظاهرين، وبالتالي لم تستطع اغتنام الفرصة التاريخية التي بدأت في 17 تشرين الأول (أكتوبر).
إلا أن التحركات التي انطلقت ولو انحسرت تدريجياً، تركت أثراً كبيراً في المسرح السياسي اللبناني، إذ شهدت العديد من قوى السلطة تراجعاً في شعبيتها، وتجسّد ذلك في الاستحقاقات النقابية لاحقاً، والانتخابات النيابية في 2022 حيث حصّلت قوى المعارضة تقدّم ملفة.
تلت مرحلة التحركات مأسآة تفجير الرابع من آب (أغسطس 2020) في مرفأ بيروت، حيث حصدت هذه الكارثة المئات من الأرواح وآلاف الجرحى، وأدّت إلى خسائر مالية تقدّر بمليارات الدولارات. ازدادت على إثر ذلك نقمة المواطنين على السلطة، وأدّت إلى فقدان الأمل نهائيًا بأي استقرار مقبل لدى البعض، وظهر ذلك بارتفاع وتيرة الهجرة في الأشهر القليلة اللاحقة للفاجعة، ورافق الانتفاضة والتفجير، انهيار اقتصادي تسارعت وتيرته خلال السنوات الماضية، وما زال يتعمّق حتى يومنا هذا.
إن الأحداث هذه أدّت إلى تغيير ملموس في المشهد السياسي اللبناني، وقد اعتبرها البعض مؤشر على أننا نعيش اليوم في خضّم نظام قد سقط أو على وشك السقوط، خاصةً بعد اعتزال أحد اللاعبين الكبار الحياة السياسية، وتضعضع حجم آخرين، والأزمة الرئاسية الراهنة، وانهيار الليرة و تعطّل القطاع المصرفي (أحد ركائز النظام اللبناني).
إلا أن أطراف النظام السياسي عادت إلى استخدام الأدوات المعتادة، فنشهد منذ الانهيار تعاظم ظاهرة الزبائنية والمحسوبيات، حيث باتت تطال قطاعات كانت قد تخلّت عنها بالكامل أو قلصّت دورها إبّان انتهاء الحرب الأهلية، كما نلحظ استشراس النظام في تعامله مع أي حالة اعتراضية قد تظهر.
نشهد اليوم عودة جدية للأمن الذاتي، حيث تنظّم المبادرة هذه من قبل الأحزاب الحاكمة في بعض الحالات، خاصةً بعد فقدان السلطات اللبنانية القدرة على بسط سيطرتها، وتأمين استمرارية تواجد القوى الأمنية. إذ إنه على سبيل المثال لا الحصر، نرى انتشاراً لرجال أمن تابعين لشركة AMN الخاصّة في منطقة الأشرفية، وذلك بعد تعاقد جمعية الأشرفية2020 (أسسها النائب وعضو حزب الكتائب نديم جميّل) معها. تحصّل الشركة بدل أتعابها بدعم مالي من سكان المنطقة والمؤسسات التجارية المحليّة.
والظاهرة هذه تتخطى نطاق المدينة بيروت فتطال مناطق شمالية كطرابلس وعكار، حيث يتم الاعتماد على الحراسة الليلية من قبل “أولاد المنطقة” بشكل عضوي. أما في المناطق غير الكثيفة بالسكان فيتّم استقدام شبان للحراسة لقاء مبالغ يدفعها الأهالي. ومن البديهي انتشار هذه الظاهرة بشكل كبير، إذ إن “الأزمة الأمنية” التي تلت الأنهيار قد ولّدت تقاطع مصالح مميّز متمثل بفرصة استثمارية لشركات الأمن الخاصّة من جهة، وفرصة لتسجيل نقاط سياسية لبعض الأحزاب الحاكمة التي “تحمي مناطقها” من جهة أخرى.
إن ظاهرة الزبائنية والمحسوبيات ليست غريبة على القطاع التعليمي عامةً، حتى أنه يذهب البعض ليصف المدرسة الرسمية على أنها “مكان لكسب المنافع“. تقول أمل، وهي معلمّة في مدرسة رسمية في منطقة جنوبية إنه: “من المعروف أن المدراء لا يعيّنون لكفائتهم بل لمدى قربهم من أحزاب مناطقهم”.
أحدثت الأزمة الاقتصادية تغييرات جدية في هذا القطاع، إذ أضحى أساتذة التعليم الرسمي وهم موزعين على ثلاث فئات (الملاك، المتعاقدين، المستعان بهم ثانوي)، وهم الفئات الأكثر خسارة بسبب الانهيار. تشرح أمل أن “أستاذ الملاك يعاني من تراجع قيمة الدخل، أما المتعاقدين فإنهم بالإضافة إلى تدني قيمة أجورهم لا يتقاضون بدل نقل، كما أنهم لا يتقاضون أجورهم شهرياً، بل كل ثلاثة شهور، وهذا يفقد أاجورهم قيمتها بسبب ارتفاع الدولار المستمر”.
يعرف أساتذة المستعان بهم ثانوي بأنهم أساتذة دخل متعاقدين إلى الثانوية، ثم حولتهم الوزارة إلى فئة ابتدعها الوزير إلياس أبو صعب ليستفيد من برنامج مساعدات الأمم المتحدة “فلا بدل نقل لهم ولا ضمانات صحيّة، ويعملون بالساعة وتتأخر أجورهم، كما يحق للملاك أن ينتقل إلى ثانوية أو مدرسة قريبة لمكان سكنه، أما المستعان بهم والمتعاقدين فهم مرتهنين للوساطة ولمزاجيات بعض المدراء والمحسوبيات”.
في مواجهة التغييرات هذه تلجأ بعض أحزاب السلطة لدفع أجور الأساتذة ليستمروا في التعليم، أما وزارة التربية، فعوضًا عن تطبيق أي حلّ يضمن استمرار التعليم الرسمي المتعثّر منذ بداية الانهيار الاقتصادي، فضلّت اللجوء الى قمع الأستاذة عبر “مئات التنبيهات والتأديبيات وقرارات الحسم والاستدعاءات والمناقلات، فضلاً عن المضايقات وإيقاف الاشتراكات في تعاونيّة الموظفين“، وذلك لثني الأساتذة عن أي احتجاج أو عمل معارض.
أما فيما يخص القطاع الصحي، فقد قررت وزارة الصحة اللبنانية رفع الدعم جزئياً أو كلياً عن الأدوية في عام 2022، وذلك بغية معالجة انقطاعها من الصيدليات، إنما دون تأمين أي خطة لحماية الفئات الأكثر فقراً. وبموازاة هذه الأحداث لجأت أحزاب السلطة إلى استغلال غلاء أسعار الأدوية، فعمد حزب الله مثلاً الى توزيع بطاقات (كبطاقة النور المخصصة لعناصر حزب الله، وبطاقة السجاد لمؤيدي الحزب)، وهي تمكّن قاعدته من شراء كل أنواع الأدوية المستوردة من سوريا وإيران وتركيا وبأسعار مدعومة ورمزية.
ان الأمثلة المذكورة تعبّر عن نهج متبّع من أحزاب النظام في مواجهة أي أزمة في أي مرفق عام، ولعل ذلك دليل على مدى بعد لبنان عن أي مقاربة جدية للانهيار، وأي خطة إصلاحية تشمل جميع المواطنين. أما فيما يخّص الأزمة الرئاسية واختلال شعبية بعض القوى السياسية فهي دلالة على أزمة النظام السياسي، في حين أن البنية الاقتصادية لأطراف النظام ما تزال صلبة حتى يومنا هذا.