ارتُكب في لبنان جرائم عدة وحصلت فيه تجاوزات مالية، عبرت بتداعياتها وخطورتها حدود البلد، وهو ما استدعى وجود محقّقين قضائيين دوليين اليوم على الأراضي اللبنانية. وليس وجود محققين دوليين حاليًا في لبنان لأسباب استطلاعية أو تشاورية، لا بل في إطار تحقيقات قضائية عالية المستوى وربما استجوابات وادعاءات.
ثلاثة وفود قضائية أوروبية من ألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ تحل تباعًا في لبنان خلال شهر كانون الثاني (يناير) الحالي، تضم كبار القضاة في ملفات مكافحة الفساد وتبييض الأموال إلى جانب رئيسة الشرطة القضائية الألمانية.
ومن المتوقع أن تشارك أيضًا بالتحقيقات، القاضية الفرنسية أود بوروزي، بحسب ما أعلن “المرصد الأوروبي لدعم النزاهة في لبنان”. مع الإشارة إلى أن القاضية المذكورة تحقق منذ مدة في قضية الاختلاس وتبييض الأموال المتهم بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وبحسب مصدر قضائي فإن التحقيقات ستشمل سلامة، خصوصًا أنه متهّم أمام القضاء الألماني ودول أخرى بتهمة تبييض الأموال. وإلى جانب سلامة من المتوقع بحسب المصدر أن يتم جمع شهادات لنحو 25 مسؤولًا مصرفيًا وماليًا، حول قضايا اختلاس وتبييض أموال والإثراء غير المشروع. ومن بين الشهود مدراء 7 مصارف وعدد من موظفي شركة تدقيق دولية في حسابات مصرف لبنان وكبار موظفي مصرف لبنان. ما يعني أن التحقيقات القضائية تستهدف فتح ملف مصرف لبنان انطلاقًا من حسابات سلامة ومعاونيه في البنك المركزي ووصولًا إلى التحويلات خارج الحدود.
في أسباب التحقيقات
تستهدف الوفود القضائيّة الأوروبية خلال جولتها في بيروت، استكمال التحقيقات في قضايا ترتبط بشبهات اختلاس وتبييض أموال والإثراء غير المشروع وتقاطع مصالح، لاسيما في ملف سلامة وشقيقه رجا وشركائه.
وفي حين يستبعد البعض أن يفتح المحققون الأوروبيون الملف المصرفي اللبناني بما يمكن أن يحوي من فساد واختلاس وتبييض الأموال في لبنان، باعتبار أن تحقيقاتهم ستتركز على مسألة رصد العمليات المالية الحاصلة وصد ارتباطها بتلك الدول، يرى آخرون أن ملف التحويلات لا بد أن يفتح معه ملف الاختلاسات وتبييض الأموال وعليه تكرّ السبحة.
وفي موضوع التحويلات التي تدور حولها شبهات، كشف المحامي وديع عقل عن سلسلة تحويلات مالية أجراها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر مصرف BGL وعليها ستستند لوكسمبورغ بتحقيقاتها. وتبلغ التحويلات تلك 21.1 مليون دولار من لبنان، و23.3 مليونًا من سويسرا، و1.9 مليون دولار من الولايات المتحدة الأميركية، في مقابل إيداع سلامة مبالغ مالية في عدد من الدول منها 35.8 مليون جنيه إسترليني في بريطانيا، و6.5 ملايين يورو في بلجيكا، و4.6 ملايين يورو في سويسرا، و3.8 ملايين يورو في ألمانيا.
تلك العمليات وغيرها الكثير ستجعل من رياض سلامة نجم التحقيقات الأوروبية في لبنان على ما يرى عقل. بالإضافة إلى ذلك فقد قام شقيق رياض سلامة، بحسب مصدر، بتحويل 200 مليون دولار من مصارف في فرنسا وألمانيا إلى مصارف لبنانية من دون أن يُعرف مصدر تلك الأموال.
وإذ يحمّل عقل تبعات ممارسات وبقاء رياض سلامة في سدة حاكمية مصرف لبنان، للسلطة السياسية، يلفت إلى أن سلامة ليس مواطنًا عاديًا بل هو رأس السلطة النقدية، وتدور في الوقت عينه حوله شبهات وضلوع في قضايا فساد، بعلم السطة السياسية وبإصرار منها على منحه فرصًا جديدة لاتخاذ القرارات المالية بما فيها التحويلات.
صلاحيات القضاء الأوروبي
حصل سجال واسع حول قانونية التواجد القضائي الأجنبي في لبنان والاستماع أو استجواب قيادات مالية ومصرفية، غير أن نقيب المحامين ناظم كسبار وعددًا من القانونيين حسموا الجدال، وأكدوا أن التعاون القضائي يجري اليوم بين لبنان والوفود القضائية الأوروبية وفق الأصول، كما أن هناك مراسلات قضائية تجري منذ سنوات وفق الأصول أيضًا.
وقد أوضح النقيب كسبار أن لبنان لم يوقّع اتفاقيات مع الدول الثلاث التي يأتي قضاة يحملون جنسيتها، لكنه انضم إلى اتفاقية مكافحة الفساد في العام 2008، مع النتائج القانونية المترتبة على ذلك. أما تاريخ الاتفاقية في الأمم المتحدة فيعود إلى العام 2003.
وأوضح كسبار أن المادة 46 من الاتفاقية تؤيد مكافحة الفساد ومكافحة تبييض الأموال. ولا يحق للدول المنضمة إلى الاتفاقية التمنّع عن المساعدة إلا لأسباب تتعلّق مثلًا بالسيادة الوطنية. وأضاف أن مبرّر التحقيق يكون عندما يرتكب جزء من الجريمة في الخارج، كأن تكون الأموال خرجت من لبنان إلى الخارج.
وشدّد النقيب كسبار على أن جميع الإجراءات يجب أن تمر عبر النيابة العامة التمييزية، وهي التي تعيّن القاضي الذي يحقق، وهو الذي يسأل ويستجوب بحضور القضاة الأجانب. كما لا يحق للقضاة الأجانب توقيف المستمع لهم، ولا يحق للبنان التمنع عن التعاون بسبب قانون السرية المصرفية.
وبحسب المعطيات فإن لبنان قد أبدى تعاونه الكامل مع الوفود القضائية الأوروبية، واستكمل الإجراءات القانونية واللوجستية لاستقبالهم، بينها الوفد الألماني الذي زار الأربعاء محكمة التمييز في قصر العدل ببيروت، مجتمعًا بالقاضي غسان عويدات وبعض القضاة.
لبنان والتعاون
وعمّا إذا كان بإمكان لبنان التهرب من التعاون القضائي، يوضح قانونيون أنه بحسب اتفاقية الأمم المتحدة، لا يمكن للبنان أن يرفض التعاون من دون مبرر مشروع، وإلا تعتبر مخالفة مع النتائج المترتبة على ذلك. وبهذه الحالة يعتبر لبنان مخلًا بموجباته الدولية.
وعمّا إذا كان باستطاعة القضاة الأوروبيين اتخاذ إجراءات بحق الأشخاص المستجوبين أو بعضهم كالادعاء عليهم وتوقيفهم، يؤكد قانونيون أنه لا يمكنهم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في لبنان، لكن بعد عودتهم إلى بلادهم، من الممكن أن يحصل تقييم للتحقيقات، وإذا توفرت لديهم أدلة ومعطيات عن توفر جرم تبييض الأموال بحق أي من المستجوبين قد تفرض إجراءات في أوروبا، وليس في لبنان، لكن في المقابل سيصبح لبنان معنيًا بتلك الإجراءات، في حال صدرت مذكرات توقيف غيابية وجرى تعميمها عبر الإنتربول الدولي، وأرسلت النشرة الحمراء إلى لبنان.
من جهته يؤكد مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي أنه في حال وصلت الملفات التي يتم التحقيق في شأنها إلى خواتيمها فهذا يعني أن لبنان سيكون قادرًا على استرداد الأموال المنهوبة، شرط أن يثبت أن تلك الأموال نُهبت فعليًا، أو أن مصدرها غير شرعي، أو أنها ناتجة عن تبييض أموال، أو أعمال غير شرعية، أو فساد سياسي.