يعاني لبنان من أزمة اقتصادية كبيرة تضرب بنيته الاجتماعية نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، ما أثر سلباً على جميع القطاعات بينها القطاع العقاري إن لناحية شراء أو إيجار المساكن. فأصبح الأمن السكني “مهدداً” وآلاف العائلات تواجه أزمة حقيقية لعجزها عن تغطية تكاليف السكن بما يتلاءم وسعر صرف الدولار المتصاعد باستمرار… فيما الدولة “غائبة” كلياً. فهل من مخارج قانونية تؤمن بعض الحماية للمستأجرين في ظل الوضع القائم؟
لبنان كرّس السكن كحقٍ من حقوق الإنسان الأساسيّة وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948 ومصادقته في العام 2008 على الميثاق العربي لحقوق الإنسان رغم تقاعس الدولة اللبنانية طيلة مدة نصف قرن وفشلها في استنباط حلول لمعالجة إيجارات السكن الموقعة قبل العام 1992، أو ما تعرف قانونياً بالإيجارات الإستثنائية أو الممددة قسراً.
وتنص المادة 38 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي وقعه لبنان، على أنّ “لكلّ شخص الحق في مستوى معيشي كاف له ولأسرته يوفّر الرفاه والعيش الكريم من غذاء وكساء ومسكن وخدمات، وله الحقُ في بيئةٍ سليمةٍ. وعلى الدول الأطراف اتخاذ التدابير اللازمة وفقًا لإمكانيّاتها لإنفاذ هذه الحقوق”.
أزمة كارثية
لكن وبعدما لامس الدولار عتبة 15 ألف ليرة لبنانية وأصبح الحد الأدنى للأجور نحو 45$ بدلاً من 450$ أصبحنا أمام أزمة كبيرة وكارثية لعقود الإيجار بالعملة الأجنبية المبرمة بين المالك والمستأجر فيما المعاشات بالليرة اللبنانية، لكننا قد نصطدم بقاعدة قانونية مفادها أن العقود شريعة المتعاقدين، لكن هذه الحرية لا تعني أن الدفع بالدولار إلزامي، حتى وإن لم يذكر العقد القيمة بالليرة اللبنانية.
ووفقاً لاجتهاد في المحاكم اللبنانية، سمح بفرض الدفع حصراً بالعملة التي ينصّ عليها العقد الموقّع بين الطرفين، اي بالدولار الاميركي، وهنا نكون أمام التزام بحرفية العقد لا بروحيته ما يشكل تهديداً للأمن السكني ونكون أمام كارثة تعصف بالمستأجرين عبر اخلائهم من منازلهم.
مرصد السكن
واحصى “مرصد السكن” عدداً من البلاغات التي تستطيع أن تلقي قليلاً من الضوء على الوضع سريع التدهور الذي تمرّ به الفئات الأكثر استضعافاً في لبنان، حيث رصد خلال أوّل شهرين من العام الحالي، 88 بلاغاً متعلّقاً بهشاشة سكنية تؤثّر على نحو 240 شخصاً، حوالي نصفهم أطفال. ومن بين البلاغات هناك ٣٦ إمرأة يسكنَ وحيدات مع أولادهن، وهن مهددات بالإخلاء.
والمرصد هو منصةٌ إلكترونيةٌ تفاعليةٌ تهدف إلى جمع البحوث وبناء المناصرة وطرح البدائل من أجل تعزيز الحق في السكن في لبنان. ويسعى المرصد إلى وضع مقاربةٍ متكاملةٍ للسكن، مؤمنًا بأن السكن أكثر من مجرّد مأوًى، إذ أنه يتضمّن الشبكات الاجتماعية والوصول إلى الموارد الأخرى التي توفّرها بيئة الحيّ.
ووضع المرصد السكني خطاً ساخناً (81017023) للإبلاغ عن أي تهديد بالسكن للوصول إلى سياسة “صفر اخلاء”.
وإذ طالب المرصد بإقرار برنامجٍ دعم المالكين والمستأجرين ذوي المداخيل المحدودة وتأمين سكن بديل بظروفٍ مناسبةٍ لكل حالة إخلاءٍ على حدا، حث على ضبط سوق الإيجارات وتحديد بدلات الإيجار وفق مؤشراتٍ تأخذ في الاعتبار تضخّم العملة والأجور، داعياً إلى فرض إبرام عقود الإيجار بالليرة اللبنانية وحماية المستأجرين من أعباء زيادة كلفة الإيجار.
انهيار اقتصادي
نادين بكداش، مسؤولة قسم الحق في السكن في “استوديو أشغال عامّة” الذي يدير مرصد السكن أوضحت لـ”بيروت توداي” أن سعر الصرف الرسمي للدولار لا يزال ثابتاً بحسب مصرف لبنان، مشيرة إلى أن قطاع السكن ليس منتجاً وفي ظل الإنهيار الإقتصادي الذي يشهده لبنان يجب أن لا يرافقه صعوداً ببدل الإيجارات وعلى الدولة التدخل لعدم لتغيير الإيجار لأن السكن حق أساسي من حقوق الإنسان.
وربطت الإيجارات بدخل المواطن، فراتب المستأجر لم يرتفع نسبياً مع ارتفاع غلاء المعيشة ولا يزال على حاله رغم ارتفاع الأسعار أو سعر صرف الدولار، وقالت: “لا يجوز ربط الإيجار بانخفاض العملة اللبنانية، فهناك ظروف أو قوانين أقوى من مبدأ حرية التعاقد، والعقود المبرمة بالدولار يتم إيفائها وفق السعر الرسمي أي على سعر LL 1500”.
ونقلاً عن مشاهدات ميدانية، أوضحت بكداش أن المالكين يعمدون على تجديد العقود رغم الفارق بسعر الصرف لأن المستأجرين لديهم يسددون البدلات بانتظام رغم الأزمة الإقتصادية ووفق السعر الرسمي للدولار، فيما هناك معظم مستأجرون لا يستطيعون ايفاء البدلات في ظل الازمة الراهنة بعد فقدان وظائفهم وفي ظل تدهور الوضع المادي.
وانتقدت المالكين الذين يقفلون منازلهم لتأجيرها إلى أشخاص مناسبين يستأجرونها بالدولار في لبنان، فيما في باقي البلدان أصحاب الشقق غير الشاغرة يدفعون ضرائب اذا بقيت كذلك، معتبرة أن عدم التدخل من قبل الدولة في هذه الحالة هو تدخل سلبي لأنها تسمح للمالك بإبقاء شقته غير شاغرة ما يسبب ارتفاعاً في بدل الإيجارات، داعية النواب إلى التقدم باقتراح قانون معجل مكرر لتثبيت سعر صرف الدولار على 1500 ل.ل في الإيجارات الموقعة بالدولار بين الطرفين للوصول إلى “صفر إخلاء”.
وأكدت أن لبنان يمر بحالة انهيار اقتصادي وأزمة اقتصادية واجتماعية وفيروس كورونا وفي ظل هذه الظروف يجب منع إخلاء المستأجر من المأجور تحت أي ظروف، وهذا ما نص عليه قانون الأماكن المتضررة جراء انفجار مرفأ بيروت لحماية المستأجرين من أي استغلال من قبل المالكين، خصوصاً للمستأجرين غير اللبنانيين.
“الأمن السكني مهدد فيما الدولة غائبة أو لا تتدخل”.. قالت بكداش، التي كشفت أن هناك ضغوطات كبيرة يتعرض لها المستأجرون وسط غياب أي قانون يرعى عقود الإيجار، فيجب وقف الإخلاءات فوراً واعتراف الدولة أن هناك أزمة سكن فاحشة تضرب البلد وسط غياب أي سياسة حمائية من قبل الدولة.
3 أنواع لسعر الصرف
المحامي ماهر خالد، المتابع لقضايا الإيجارات القديمة أو الممدة، ميّز بين 3 أنواع من سعر صرف الدولار: الرسمي 1500 LL وفي المصارف أو المنصة الإلكترونية 3900 LL وفي السوق السوداء نحو 12000 LL وقال لــ”بيروت توداي”: “نحن اليوم أمام اشكالية بين المستأجرين والمالكين في ما يتعلق بالعقود الحرة التي يتفق فيها الطرفان على المدة وغالباً ما تكون لمدة 3 سنوات بخلاف عقود الإيجارات القديمة”.
وأوضح خالد أن “ارتفاع سعر صرف الدولار وضع المالك أمام اشكالية شعر بها أنه مغبون اذا كان العقد الموقع مع المستأجر بالدولار وأصبح يريد أن يستوفي الإيجار بالعملة المحددة بالعقد ولكن هذا الأمر تعجيزي بالنسبة للمستأجر الذي تمسك بسعر الصرف الرسمي”.
وتابع: “اذا رفض المالك استلام بدل الإيجار بالعملة اللبنانية سيقدم المستأجر أن يودع المبلغ عند الكاتب بالعدل ويعتبر نفسه أوفى الإيجار المطلوب واذا استمر هذا الأمر سيلجأ الطرف المتضرر إلى القضاء الذي لم يصل حتى اليوم إلى نتيجة واحدة، رغم أن قانون النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود ينصان على الإيفاء بالعملة الوطنية”.
حل حبي
“غالباً ما نحاول القيام به هو ايجاد حل حبي يرضي الطرفين”…قال خالد الذي أكد أننا نسعى إلى التوفيق بين الطرفين عبر زيادة بسيطة للإيجار بحسب قدرة المستأجر وكي لا يشعر المالك بأنه مغبون تلافيا لأي نزاع قضائي يصعب التكهن بالقرار خصوصاً أن المحاكم تعتمد سعر الصرف الرسمي ولم يصدر أي قرار يخالف ذلك حتى في محاكم الإستئنافية”.
اذا كان الحل “الحبي” هو الأقرب الى العدالة أحياناً إلا أن المالك قد لا يرضى به ويستطيع عدم تجديد عقد الإيجار في حال انتهت مدته وهنا نكون أمام كارثة للمستأجر، فما الحل؟ أوضح المحامي خالد، الضليع في قضايا الإيجارات الإستثنائية أو الممددة، “أن الحل الأفضل يكون بصدور قانون يحدد سعر ايفاء القروض أو سداد بدلات الإيجار وقد يكون اعتماد سعر المنصة أو أي سعر محدد تلافيا لأي صدام وتصبح أكثرية المستأجرين خارج بيوت رسموا مستقبلهم فيها”.
في المحصلة، طالما أن سعر صرف الرسمي يحدده مصرف لبنان فهو ثابت في محيط 1515 ل.ل وعلى المالك الإلتزام به وإذا امتنع عن قبض الإيجار بالليرة اللبنانية، فمن الممكن، بحسب قانونيين، إيداع المبلغ عند كاتب العدل وإرفاق إفادة بسعر الصرف الرسمي بتاريخ الدفع لحفظ الحقوق، بانتظار قانون يحدد السعر “العادل”.