اليوم، بات من الضروري التصدي لكل الادعاءات الملتبسة التي تصدّرها الطبقة السياسية الحاكمة في وجه اللاجئين السوريين، في ظل تنامي خطابات الكراهية والاتهامات الموجهة ضدهم. إن هؤلاء المؤتمنين على حماية الدولة يلجؤون لمثل هذه التهم المغرضة ضد مجموعات اللاجئين لتحميلهم وزر الخطر المحيق بالاقتصاد اللبناني، مدعيين أن عوامل ازدياد معدلات البطالة وتراجع مستوى الأشغال المتاحة وتدهور البنى التحتية والوضع البيئي وأزمة المياه في لبنان، لا يسببها سوى تعاظم أعداد اللاجئين السوريين وعدم دفعهم للضرائب.
هذا الواقع يبيّنه نجاح جزء من السياسيين في زيادة منسوب كراهية اللاجئين السوريين بين اللبنانيين وحضهم على المطالبة بتسريحهم من البلاد، عبر الترويج لبعض الحوادث الأمنية المعزولة والفردية، كحادثتيْ عرسال (٢٠١٤) ومزيارة (٢٠١٧)، واستثمارها لنشر الحقد والعدائية تجاه اللاجئين.
وبحسب آخر المستجدات، باتت الوجوه السياسية تركز على أثر اللجوء السوري المباشر على الاقتصاد اللبناني عامةً وسوق العمل خاصةً، زاعمة أن عملية استبدال العمال اللبنانيين باللاجئين السوريين الذين يقبلون بساعات عمل أطول مقابل أجر قليل، هي المسبب الأول للبطالة المنتشرة بين صفوف اللبنانيين.
ولكن ما مدى مصداقية هذه الادعاءات؟
هذه هي الحقائق:
إن التصريحات التي يدلي بها المسؤولون اللبنانيون حول ارتباط أزمة الاقتصاد وسوق العمل باللجوء السوري ليست بالضرورة واقعية أو دقيقة، خصوصًا أن أحدث دراسة حول وضع سوق العمل المحلي تعود إلى العام ٢٠٠٩، وقد أجرتها إدارة الإحصاء المركزي آنذاك.
منذ نشوء أزمة اللجوء، أُنجزت العديد من الدراسات حول تأثيرات هذه القضية على الاقتصاد اللبنانيّ (منظمة العمل الدولية، ٢٠١٣)، فيما تمحورت أخرى حول علاقة النزاع السوري بالاقتصاد اللبناني، ونذكر منها دراسات البنك الدولي بين عامي ٢٠١٣ و ٢٠١٥، كما دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومفوضية شؤون اللاجئين في العام ٢٠١٥. لكن هذه الدراسات لم تميّز بين تداعيات وجود اللاجئين السوريين وتداعيات النزاع السوري.
في ظل غياب المعلومات والبيانات المطلوبة، لم يعد من الممكن طرح تقديرات علمية ودقيقة حول واقع السكان اللبنانيين كما اللاجئين السوريين بالشكل المناسب. لذلك، يتوجب اليوم على الحكومة اللبنانية ومؤسساتها القيام بدراسات شاملة ومفصلة لمعالجة هذه القضية على الأصعدة كافة، عوضًا عن الخوض في توجيه اتهامات تحريضية مبنية على إحصائيات افتراضية ضد اللاجئين وتحميلهم اللوم عن كل المشاكل السياسية والاجتماعية والبيئية الواقعة في لبنان حتى قبل قدومهم.
في الحقيقة، إن الفشل في تنفيذ سياسات تخفف من نسب الفقر وتخلق فرص عمل جديدة عائدٌ إلى الجمود السياسي والانقسام الاجتماعي في لبنان، إلى جانب هيكلية التركيبة الاقتصادية اللبناني القائمة بجُلّها على قطاعات غير إنتاجية.
توضيح بعض الخرافات المتعلقة بسوق العمل
قبيل قدوم اللاجئين، وفي دراسة أعدها في عام 2012، أشار البنك الدولي إلى تضاؤل القدرة الاستيعابية للاقتصاد اللبناني بشكل كبير. إذ بين عاميْ ٢٠٠٤ و ٢٠٠٩، لم ينتج هذا الأخير سوى ٣٤٠٠ وظيفة جديدة فقط، في مقابل التحاق ما يقارب ١٩٠٠٠ فرد جديد إلى سوق العمل سنوياً.
لا يزال الباحثون عن عمل في لبنان يواجهون ثلاث صعوبات أساسية، وهي:
- هيكلية الاقتصاد اللبناني، حيث تقتصر فرص العمل على القطاعات ذات الإنتاج المنخفض، كتجارة الجملة والمفرق، تصليح الآليات، النقل والتخزين، وأنشطة الإقامة والخدمات الغذائية، بالإضافة إلى الأنشطة العقارية. وقد أثبت البنك الدولي، بين عاميْ ٢٠٠٤ و٢٠٠٩، أن الاقتصاد اللبناني يبتعد عن القطاعات ذات الإنتاجية المرتفعة ليتوجه نحو تلك ذات الإنتاجية المنخفضة، مما يؤدي إلى انخفاض احتمالية خلق فرص عمل لائقة، كما احتمالية نمو الاقتصاد على المدى الطويل.
- عدم توافق المهارات المهنية الموجودة لدى الشباب اللبناني مع أنواع فرص العمل المتاحة، ما يدفع العديد منهم إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل.
- نقص سهولة الحركة بين الوظائف الرسمية وغير الرسمية.
إن نظرية تنافس اللاجئين السوريين واللّبنانيين على الوظائف نفسها هي مجرد فرضية مستبعدة. إذ وعلى الرغم من الأثر السلبي الذي فرضه اللاجئون السوريون على معدلات الأجور ونوعية الوظائف في ميادين العمل التي تتطلب نسبة مهارات متدنية، إلا أن القطاعات المرتكزة على القوى العاملة ذات المهارات العالية لم تتأثر فعليًا.
لذلك، فإن احتمالية منافسة اللاجئين السوريين للقوى العاملة اللبنانية ذات المهارات العالية تبقى متدنية جداً، وذلك نظراً إلى المستوى التعليمي المنخفض نسبياً عند اللاجئين السوريين، كما ارتفاع معدلات البطالة لديهم والقيود القانونية الموضوعة على شروط دخولهم إلى سوق العمل.
وفقاً لتقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين واليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي، يعمل ما يقارب ٥٠ بالمئة من اللاجئين السوريين في قطاعي الزراعة والبناء. أما وبحسب آخر استبيان أجرته الإدارة المركزية للإحصاء، لا يعمل في هذه القطاعات سوى ١٤بالمئة من اللبنانيين فقط.
فيما لا يعمل سوى ٣٢ بالمئة من اللبنانيين في القطاعات التي تحتاج إلى خبرة متدنية، فإن النسبة المسجلة من اللاجئين السوريين العاملين فيها تتخطى الـ٦٠ بالمئة، خصوصا أن مثل هذه الوظائف لا تجتذب اللبنانيين كثيرا.
توفر هذه النسبة الكبرى من القوى العاملة السورية ذات الخبرة المتدنية والأجر المنخفض، وعلى عكس ما هو شائع، سمح للشركات اللبنانية تخفيض كلفة أجورها وبالتالي تكلفتها الإجمالية، ما ساعدها خلال فترة الركود الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك، سدّ اللاجئون السوريون الفراغ في بعض القطاعات التي كانت تعاني من نقص في العمال، كقطاعات العمارة والزراعة والخدمات المنزلية ومتاجر البقالة. إذًا، لا يتنافس اللاجئون السوريون مع اليد العاملة اللبنانية، بل يتنافسون مع العمال المهاجرين على وظائف تتطلب خبرة متدنية وأجور منخفضة.
تزعم التصريحات المتداولة أن عدد السوريين الموظفين في لبنان يفوق الـ٥٠٠,٠٠٠، إلا أن منظمات العمل الدولية قدرته بـ ٣٠٠٬٠٠٠ عامل سوري قبل الأزمة، في حين لا يتعدى عدد السوريين الموظفين في لبنان حاليا الـ ٢٠٠٬٠٠٠ من بين المليون والنصف لاجئ الموجودون في لبنان، وفقاً لتقديرات مشروع “اللاجئون شركاء“.
وفي حين لا يخجل المسؤولون اللبنانيون من التعليق على الوضع القانوني للاجئين السوريين في لبنان ووصم عملهم في لبنان بعدم الشرعية، إلا أنهم يغفلون أن ارتفاع أعداد السوريين غير المسجلين في لبنان هو نتيجة مباشرة لسياسات الحكومة اللبنانية التي تصعّب عمليات حصول السوريين على إقامة قانونية في لبنان.
سياسة عودة عدوانية
امتنع لبنان عن التصديق على الاتفاقية المتعلقة بوضع اللاجئين عام ١٩٥١ وبروتوكولها في العام ١٩٦٧ الذي يحدد الإطار القانوني لوضع اللاجئين. وتنص هذه الاتفاقية على مبدأ “عدم العودة القسرية” الذي يمنع العودة القسرية للاجئين أو طردهم إلى أماكن يمكن أن تتعرض فيها حياتهم وحرياتهم للتهديد، كما يمنع رفض النازحين الذين يسعون إلى الدخول بأمان إلى الحدود في جميع الظروف. وقد كان لهذا الإجراء أثر على كيفية تأقلم الحكومة اللبنانية مع أعداد اللاجئين الهائلة ضمن حدودها، لكنها وحتى يومنا هذا، فشلت في اعتماد سياسات محددة لإدارة قضايا اللاجئين، فنعتتهم بالمشردين بدلاً من اللاجئين.
في البداية، أيدت الحكومة اللبنانية سياسة فتح الحدود وسمحت بالدخول غير المقيد للسوريين بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٤. ومع ذلك، فإن العدد الكبير من اللاجئين السوريين الذين يدخلون إلى لبنان، في ظل تنامي هاجس “التوطين” وخطر الإخلال بالتوازن الطائفي الدقيق، دفع بالحكومة اللبنانية إلى تبني منهجية مشددة للحد من عدد السوريين القادمين إلى لبنان وفرض حصولهم على تصاريح إقامة وعمل قانونية، ما أدى بدوره إلى تقييد حركة هؤلاء خشية تعرضهم للاعتقال أو الترحيل.
في عام ٢٠١٥، وضع مكتب الأمن العام قيودا صارمة على الراغبين على الحصول على تصريح للإقامة في لبنان، حيث يتطلب منحها موافقة مكتب الأمن العام مع رسوم إلزامية قدرها ٢٠٠ دولار، وهي رسوم لا يستطيع معظم اللاجئين السوريين تحملها لأن ٦٨٫٥ بالمئة منهم يعيشون تحت خط الفقر. بسبب هذه القيود، وبحسب تقديرات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، انخفضت نسبة اللاجئين السوريين الذين يحملون تصاريح إقامة من حوالي ٧٦٫٣ بالمئة في عام ٢٠١٤ إلى ٢٦بالمئة فقط في عام ٢٠١٧.
من جهتها، أصدرت وزارة العمل اللبنانية المرسوم رقم ١/٢١٨ الذي حدد المجالات التي يمكن للاجئين السوريين العمل فيها، وهي الزراعة والبناء والبيئة (أي إدارة النفايات وإعادة التدوير). في وقت لاحق من العام ٢٠١٧، أصدرت وزارة العمل القرار ١/٤٩ الذي كان مطابقًا تقريبًا للقرار الصادر في العام ٢٠١٥، ولكنه تضمن بندًا إضافيا يتعلق بإجراءات إصدار وتجديد تصاريح العمل للعمال الأجانب. وقد صدرت جميع هذه القرارات بحجة حماية العمال اللبنانيين.
تشير القرارات والسياسات المذكورة أعلاه إلى تخلي لبنان عن سياسة “الباب المفتوح” التي كان يعمل بموجبها قبل تدفق اللاجئين، والتي كانت تقضي بإخضاع المواطنين السوريين لنفس القانون المحلي المنصوص عليه في قانون العمل اللبناني والذي ينطبق على الأجانب، بما يتوافق مع معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين الجمهورية اللبنانية والجمهورية العربية السورية في عام ١٩٩١ التي منحت كلًّا من المواطنين السوريين والمواطنين اللبنانيين حرية التنقل وحرية الإقامة وحق العمل في كلا البلدين. لذلك، كان يمكن لأي مواطن سوري، وبمجرد حصوله على تصريح إقامة، أن يعيش ويعمل في لبنان إلى أجل غير مسمى.
بناء عليه، نستنتج أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية وهيئاتها لا تنتهك القانون اللبناني فحسب، بل مجمل المعاهدات الثنائية أيضا.
على مر السنين، تعرض اللاجئون السوريون لكثير من الاعتداءات التي أخذت أشكالا عدة مثل التعذيب، والموت في الحجز العسكري، والضرب الجسدي، والترحيل إلى سوريا، كما سياسات حظر التجول التمييزية والإخلاء الجماعي.
بالإضافة إلى ذلك، اتبعت الحكومة اللبنانية خلال الأشهر الماضية سياسات مثيرة للقلق، منها إغلاق الشركات الصغيرة التي تعود ملكيتها لأشخاص من الجنسية السورية، وهدم ما يقارب ٥٠٠٠ مستوطنة غير رسمية في عرسال، مما أدى إلى تشريد ١٥،٠٠٠ لاجئ سوري، كما تدير وزارة العمل حملة “لمحاربة العمالة الأجنبية الغير قانونية” للسوريين. لا شك أن هذه السياسات الوحشية هي جزء من استراتيجية واسعة هدفها حث اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم بالقوة، حيث أمنهم مهدد.
ورغم ذلك، فإن بعض الشخصيات السياسية لا تزال تدعي مرارًا وتكرارًا أن عودة اللاجئين منفصلة عن الوضع الأمني والحل السياسي في سوريا، طالما أن هناك “مناطق آمنة”، وهو ما جرى الترويج له بكثرة في عام ٢٠١٧.
وقد ظلت عودة اللاجئين السوريين موضع خلاف رئيسي حتى بلغت ذروتها في عام ٢٠١٨، بعد أن علق وزير الخارجية اللبنانيّ جبران باسيل طلبات إقامة جميع موظفي مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بسبب ثنيها المستمر للاجئين عن العودة ودعوتها لهم إلى الاندماج في المجتمعات اللبنانية المضيفة. وقد عاد باسيل ليؤكد معارضته لإجراءات المفوضية، ملوحا بمؤامرة “توطين اللاجئين” عبر تغريدة له على موقع تويتر كتب فيها الآتي: “مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين تتعارض مع سياسة لبنان المتمثلة بمنع التجنيس وإعادة المشردين إلى وطنهم”.
وليس بيّنا إذا كان هذا النوع من الروايات الملفقة والعدائية الذي تستعين به الطبقة السياسية الحالية في لبنان هو محاولة للضغط من أجل عودة اللاجئين، أو محاولة لإرضاء الجمهور اللبناني الغاضب، وهو ما لن نتمكن من التطرق إليه في هذا المقال. لكن، لو كان هدف الحكومة اللبنانية هو فرض عودة اللاجئين السوريين على أوسع نطاق، فإذًا يتوجب عليها إجراء تقييم لمختلف السيناريوهات الاقتصادية الممكنة، في حال جرت إعادة اللاجئين بنفس الوتيرة السريعة التي ترجوها.
مساهمة اللاجئين السوريين في الاقتصاد اللبناني
في حين أثر اللاجئون السوريون على الاقتصاد اللبناني عبر أساليب مختلفة، كزيادة الضغط على البنية التحتية العامة المتأزمة، ونظام الرعاية الصحية الأولية، والنظام التعليمي، ونظام إدارة النفايات وقطاع الطاقة، إلا أنهم يساهمون أيضًا في الاقتصاد اللبناني بشكل إيجابيّ.
ويتبين هذا الأثر الإيجابيّ عبر مشاركتهم في الدورة الاقتصادية، والإيجارات التي يدفعونها، إلى جانب المساعدات المالية الإنسانية الكبيرة التي يتلقاها لبنان سنويًا والتي ساهمت في تنمية الاقتصاد، إذ منذ عام ٢٠١٣، ولبنان يتلقى سنويًا مليار دولار أمريكي على شكل مساعدات وهبات تتوزع على ٧٦ منظمة مختلفة، منها برنامج الأغذية العالمي ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والأونروا واليونيسيف وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وذلك لقاء عملها في لبنان وتقديمها الإغاثة والمساعدة للاجئين، وتأمينها الأمن الغذائي والتعليم والصحة والمياه، كما سبل العيش والحماية والمأوى والضمان الاجتماعي لهم.
ووفقًا لتقديرات مشروع “اللاجئون شركاء”، تلقى لبنان ما يقارب الـ٥٫٨٣ مليار دولار على شكل مساعدات إنسانية بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٨، وقد جرى تخصيص المساعدات الإنسانية بشكل أساسي في “برنامج الإيصالات الإلكترونية أو البطاقات الإلكترونية” التابع لبرنامج الأغذية العالمي والهادف إلى تقديم الإغاثة لكل من اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة على حد سواء. يوفر برنامج الأغذية العالمي للأشخاص المعرضين للخطر من اللاجئين السوريين بطاقات تحتوي على ٢٧ دولار للشخص الواحد شهريا، ولا يمكن استخدمها إلا في ٥٠٠ متجر لبناني متعاقد مع البرنامج، وبالتالي فإن هذه المتاجر تستفيد من وجود اللاجئين السوريين.
هذا الأمر أدى إلى توسيع المخازن وخلق وظائف جديدة لتلبية الزيادة في الطلب على السلع. نتيجة لهذا النشاط الاقتصادي المتزايد، أسهمت المساعدات السنوية (٥٫٨٣ مليار دولار) في إدخال ٩٫٣٣ مليار دولار إلى الاقتصاد اللبناني.
إضافة إلى إفادة المجتمعات المحلية المضيفة والاقتصاد عبر الاستهلاك، يساهم اللاجئون السوريون أيضًا في المجتمعات المحلية من خلال استئجارهم للمساكن. وفق مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين واليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي (٢٠١٨)، يبلغ متوسط الإيجارات التي يدفعها ٨١ في المئة من اللاجئين السوريين ١٨٢ دولارًا. ووفق تقديرات منظمة “اللاجئون شركاء”، فإن مساهمة أسر اللاجئين السوريين في حقل الإيجار ساعدت أصحاب العقارات في المجتمعات المحلية المضيفة والاقتصاد اللبناني بشكل كبير، تُقدر بـ ٣٨٣ مليون دولار كحد أدنى، و٥٣٠ مليون دولار كحد أقصى.
علاوة على ذلك، فإن اللاجئين السوريين هم مستهلكون بحكم الواقع. ونظرًا للارتفاع في الطلب على السلع الاستهلاكية وشرائها، زادت الإيرادات الحكومية بمبلغ ٨٠٠ مليون دولار بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٦، ويأتي جزء كبير منها من الإيرادات غير المباشرة من السلع والخدمات.
أظهرت دراسة قائمة على سيناريو العام ٢٠١٨ أن الصراع السوري وما تلاه من تدفق للّاجئين سيؤدي على الأرجح إلى “تغييرات عميقة في كل من هيكل القوى العاملة وأنماط الاستهلاك والادخار في لبنان، ما يؤدي إلى تحولات في الطلب على السلع وعوامل الإنتاج.”
كما برهن أحد السيناريوهات التي قدمتها الدراسة أنه جرى التعويض عن الانخفاض الإجمالي في الصادرات بشكل كامل عبر دخول اللاجئين السوريين إلى قطاعات الزراعة والطاقة والاتصالات والنقل.
التداعيات الاقتصادية المحتملة لعودة اللاجئين
لا شك أن وجود اللاجئين السوريين على مدى السنوات القليلة الماضية أثر على التغيرات الهيكلية في الاقتصاد اللبناني. ومع ذلك، على عكس الاعتقاد السائد بأن اللاجئين السوريين يؤثرون سلبًا على الاقتصاد، لا يمكن تجاهل مساهماتهم الإيجابية في الاقتصادات المحلية والمجتمعات المضيفة، كما التدفق العام للمساعدات الإنسانية الناتجة عن وجودهم.
إن الحض على عودة اللاجئين السوريين بشكل متسارع قد يعود بتداعيات كارثية على الاقتصاد اللبناني، مع العلم أن غياب المساعدات الإنسانية والاستهلاك والإنتاج العمالي الناتج عن وجود السوريين في لبنان يعيق النمو الاقتصادي.
كما أن عودة اللاجئين على نطاق واسع ستلحق ضررا بالاقتصادات المحلية، لأنها تعني حرمان جزء كبير من ملاك الأراضي والمتاجر المتعاقدة مع برنامج الأغذية العالمي في المجتمعات المضيفة المحلية من موارد دخلهم الأساسية، وستعاني الشركات المحلية من نقص العمالة الرخيصة ذات المهارات المتدنية التي يوفرها اللاجئون السوريون.
ومع ذلك، لا يمكن تحديد ما إذا كانت فوائد وجود اللاجئين السوريين تفوق سلبياته، في ظل غياب دراسة اقتصادية شاملة حول هذا الموضوع.
في هذه الأثناء، تشوه الطبقة السياسية الحالية سمعة اللاجئين السوريين وتحمّلهم أسباب تردي الاقتصاد اللبناني كوسيلة لصرف الانتباه عن بعض الأزمات في لبنان، متجاهلة قضايا عدة مثل تنفيذ خطة شاملة لإدارة النفايات وتلوث الهواء وأزمة نهر الليطاني وتزايد انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية والفقر المتصاعد، وذلك كله على حساب مصلحة اللبنانيين.
قبل اتخاذ أي خطوات إضافية للبت بالعودة الجبرية للاجئين السوريين، يتوجب على المسؤولين والسياسيين اللبنانيين إجراء دراسات تقييمية دقيقة لجميع جوانب الاقتصاد اللبناني، أخذا بعين الاعتبار تأثيرات الصراع السوري واللجوء عليه.