يبدو أن سياسة الاستيطان الإسرائيلية لم تعد تلقى الدعم أو التغاضي من الغرب كما في الماضي. إذ إنه عندما أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو الأسبوع الماضي أنها أعطت تراخيص لتسع مستوطنات “غير شرعية” انهال الاستنكار عليه من المعارضة الإسرائيلية في الداخل ومن الخارج، خاصةً من الإمارات والولايات المتحدة، اللتان تحاولان توطيد علاقتهما مع الزعيم المخضرم. يأتي هذا في سياق أزمة دستورية تعاني منها إسرائيل، حيث يحاول نتنياهو تقويض السلك القضائي عبر إصلاحات غير مسبوقة ستساعده على التملص من تهم الفساد التي تلاحقه. كيف ستظهر محاولات التطبيع الحاصلة والمتوقعة في ظل حكومة يظهر أنها تبحث عن عوائق لحلول أزماتها؟ وماذا سيكون موقف الدول المطبّعة والداعمة لإسرائيل؟
منذ عودته إلى الحكم، يواجه نتنياهو ما يشبه العصيان المدني من المعارضة والمجتمع المدني الإسرائيلي بسبب “إصلاحات قضائية”، هي حقيقةً ضرب لسلطة المحاكم، حيث يواجه نتنياهو تهم فساد ورشوة منذ عام 2017، كادت تطيح به سابقاً. يشكل التعديل القضائي أحد وعود حملته الانتخابية، ما يجعل التملص غير ممكن. وجاءت الهجمات في القدس والضفة الغربية كحجة ليشد نتنياهو العصب المتطرف، خاصةً مع حلفائه في الحكومة المعروفين بعنصريتهم وتطرفهم، ومرر مجموعة من القرارات ألهت المتظاهرين وامتصت بعض الغضب الشعبي. لم يساعد إعلان السلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني في تهدئة حالة الخوف التي أنذر بها حزب الليكود وحلفاؤه، إذ استمر التجييش العنصري والقبلي ضد الفلسطينيين.
من ناحية أخرى، يبدي نتنياهو استعداداً للتطبيع مع السعودية، فقد أوضح في مقابلة أجرتها معه قناة العربية في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أن أهدافه فيما خص التطبيع مع الدول العربية لمواجهة إيران دون أن يعني ذلك التفاوض مع السلطة الفلسطينية، كما نددت الإمارات والسعودية بعبارات غير اعتيادية بالخطوة الاستفزازية تجاه الفلسطينيين عندما دخل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى المسجد الأقصى في محاولة لتبرير الإجراءات القمعية، وتم تأجيل زيارة نتنياهو إلى الإمارات لأجل غير مسمى. ومع تزايد القمع ضد سكان الضفة الغربية، صدرت بيانات مشابهة، ما يجعل مشوار التطبيع أصعب مما كان، ولا يظهر أن نتنياهو يحاول احتواء هذه العقبات، رغبةً منه في الحفاظ على حكومته الهشة.
هل حوصرت الحكومة الإسرائيلية من كافة الاتجاهات؟ يتضاءل الدعم الغربي لإسرائيل مع مرور الوقت. إذ عندما ظهر أن نتنياهو فاز بالانتخابات، بدأت المنظمات التي اشتهرت بدعمه بإصدار البيانات المحذرة من سياسات حلفائه المزمعين، لقد بنى السياسيان بتسلئيل سموتريتش وبن غفير مسيرتهما على أيديولوجيا متطرفة تدعو إلى طرد العرب من الضفة وإطلاق العنان للاستيطان، ومع تعثر مفاوضات السلام مع الطرف الفلسطيني لعدة أسباب، لاقت الأحزاب المتطرفة تأييداً واسعاً من المستوطنين، ما سهل صعودها إلى موقع أجبر نتنياهو على التحالف معها لتشكيل حكومة، ومن دون الإذعان لهم، لن يستمر نتنياهو في الحكم، لذلك أجبر على دعم السياسات المتطرفة ضمن حدود المعقول مع الأميركيين.
من الخطأ الظن أن نتنياهو يريد توسيع الاستيطان بهذه السرعة، نظراً لعلمه بتبعات هذا على موقف الرأي العام العالمي من إسرائيل، ولكن منذ بداياته السياسية، اعتمد نتنياهو على تحالف من الأحزاب الدينية مع الليكود ليتمكن من تشكيل حكوماته السابقة، وفي كل مرّة كان يقع في خلافات جذرية وعميقة معهم، أما هذه المرّة فقد ضاق مجال المناورة لديه، بسبب حاجته للأحزاب المتطرفة للاستمرار في الحكم وتمرير التعديل القضائي، كل هذا يتطلب منه الانسياق وراء سياسات يعلم أنها مدمرة لمكانته العالمية. لن يستطيع نتنياهو التحالف مع آخرين ودرء جنون الصنف الجديد من التطرف الصهيوني العنصري، الذي أظهر أن “الصهيونية الليبرالية” هي وهم غير قابل للتطبيق.
تزعم المعارضة الاسرائيلية بزعامة عضو الكنيست الإسرائيلي يائير لابيد أنها تعارض سياسات نتنياهو “الفاشية”، لكن لابيد لم يذكر حقوق الفلسطينيين، ولم يشدد أيضاً على الانتهاكات الصارخة لها من قبل سياساته هو ونتنياهو. من هنا، يظهر في المقلب الآخر ضعف “المعارضة الاسرائيلية” التي لا تحفل بحقوق العرب، وتتغاضى عن طردهم من قبل المستوطنين بعكس ما تدعي الآن، ويزيد هذا من تعقيد ملف الاستيطان بسبب استخدامه كأداة سياسية سواء أكان للتجييش العنصري أو السياسي دون أي تفكير بحل جدّي، لتتحول من قضية ذات بعد سياسي وعسكري ووجودي إلى حبل يتم شده عند الحاجة لكبش محرقة سياسي، غالباً ما يأتي على حساب الفلسطينيين.
لم يحصل كل هذا الجدال من فراغ، فقد أثبتت السلطة الفلسطينية فشلها الذريع في العمل السياسي بمواجهة إسرائيل، ورغم كل الفرص التي أتيحت لهم عجز القادة الفلسطينيون عن الوصول إلى تموضع حازم وجاد فيما يخص الاستيطان وغيره من الانتهاكات في الضفة الغربية أو على الساحة الدولية. لا أحد يأخذ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على محمل الجد، إذ يفضل الفرقاء الدوليون التفاوض عبر مسؤولين مخضرمين يستطيعون اتخاذ القرار اللازم. أما حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأعمالها غير الناجعة سياسياً أو عسكرياً، فقد نجحت في عدل نفسها عبر التحالف مع إيران وسوريا وغيرها من الدول المنبوذة دولياً ما حرمها من أي حيثية سياسية للتواصل والتفاوض، وهو ما يقوي يد إسرائيل في فعل ما تريد في غزة والضفة الغربية.
في لبنان، لا تزال القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في المجال العام اللبناني والفلسطيني. ربما حاول بعض اللبنانيين الترويج للتطبيع مع إسرائيل انطلاقاً من مبدأ الحياد و”مصلحة لبنان”، لكن التطورات ليست أبداً بعيدة عن لبنان. رغم أن شبح الحرب مع إسرائيل أصبح أبعد من قبل، لا أحد يعلم كيف يمكن للهدوء أن ينقلب. ولكن لا يمكن للحياد أن يسود في ظل بطش الإسرائيليين وتوسيع مستوطناتهم. على الساحة اللبنانية، سيلجأ حزب الله إلى التجييش والتذكير بهدف وجوده “حماية لبنان من إسرائيل”. ومن المرجح أن تخفت الأصوات القليلة الداعية للتطبيع تحت وطأة المأساة الناتجة عن سعي نتنياهو لضم الضفة، وتهجير العرب منها تحت ضغط من حلفائه.
الحرج الأكبر سيقع على الدول التي طبّعت فيما يعرف بـ”اتفاقيات أبراهام”. حتى بعد إصدار الإمارات والبحرين مواقف منددة بالغارات في الضفة الغربية، فإن الرأي العام العربي بدأ، ولو بخجل، بانتقاد الاتفاقيات بسبب استمرار إسرائيل بالتوسع الاستيطاني الذي كان تجميده شرطاً للتطبيع. وسيؤخر هذا أيضاً عملية التطبيع مع السعودية كثيراً: لن تستطيع المملكة العمل ضد الرأي العام وإعطاء الشرعية لحكومة ساعية إلى ضم الضفة، مما يقضي نهائياً على حل الدولتين الذي حاولت المملكة الدفع به في المبادرة العربية للسلام عام 2002، وفي حال اندلاع حرب، كما في عام 2021، فإن الدول العربية ستقف ضد أي عمل عدواني، من دون الدعم المباشر لأي ما سيقوم به الفلسطينيون كردة فعل.
ختاماً، لابد من الإشارة إلى أن نتائج الاستيطان المتزايد أدت إلى عزلة متزايدة لإسرائيل على الصعيد العالمي، بينما يرى الفلسطينيون أن لا فائدة من التفاوض مع حكومة متشددة ذات أهداف مؤذية، ما يجعلهم يفضلون الحرب أو اليأس على الحل السياسي. وفيما يظن نتنياهو أن نجاته تكمن في اتباع خط توسيع المستوطنات دون رادع، إلا أنه عاجلاً أم أجلاً سيدرك فداحة خطأه عندما يواجه بكم من الفوضى والمشاكل التي ستطيح به. يظهر الاستيطان مرة أخرى كأحد العوائق الأساسية أمام أي مجهود دبلوماسي إسرائيلي مع الدول العربية، التي أيضاً ستُحرج من تصرفات نتنياهو.