السير في بيروت (REUTERS | Mohamed Azakir)
(REUTERS | Mohamed Azakir)

 زحمة السير ملوثات خطرة:  بيروت مرآب كبير والدولة في سبات عميق 

تخيل نفسك وأنت تقود سيارتك على أحد الاوتسترادات في فرنسا، ورأيت إحدى اللوحات الالكترونية الموصولة بمجسات الهواء تعلمك بأنه ملوث بنسبة معينة من الاوزون (O3)، أو ثاني أكسيد النيتروجين (NO2)، أو الجسيمات الدقيقة (PM2.5) و(PM10)  والمكونات العضوية المتطايرة COV ، أو ثاني أوكسيد الكبريت (SO2 )،  كلها تنبعث من عوادم السيارات خصوصا في ساعات ذروة الزحمة، والمطلوب منك تخفيض السرعة الى 40 او 60 كيلومتر في الثانية كحد أقصى. حكما  ستلتزم بذلك وإلا فإن الشرطة ستلاحقك أو سترسل اليك مخالفة مرورية الى مكان إقامتك.

هذا الإجراء أصبح طبيعيا في فرنسا منذ أعوام ، فيما في لبنان قد يحتاج لعشرات السنين،  على رغم أن نسب هذه الملوثات في هوائنا، خصوصا في بيروت الكبرى والمناطق المحيطة بها، وصلت إلى حد خطير ومخيف نتيجة التلوث الصادر عن قطاع النقل بالدرجة الأولى ومولدات الكهرباء الخاصة المنتشرة بين الأحياء بالدرجة الثانية،  وعن معامل انتاج الكهرباء في الذوق والجية ودير عمار والزهراني . 

ويؤكد مدير وحدة أبحاث البيئة  والجينوم في جامعة القديس يوسف ماهر عبود أن أكثر من 90 في المئة من قاطني بيروت معرضون لتنشق أكثر من 40 ميكروغراماً في المتر المكعب الواحد (وهو المعدل السنوي الاقصى المسموح به  في المدن من منظمة الصحة العالمية) من الغازات الملوثة على مدار السنة. وبالنسبة إلى نوعية الجسيمات الدقيقة هناك تخط بحدود ال 200 الى 300 بالمائة للمعدلات السنوية، ويقل قطرها عن 10 ميكرومتر، وتجتاز شعيرات الأنف، وتستقر في الحويصلات الهوائية، ما يزيد من خطورة الإصابة بالسكري ومشكلات القلب، وتحديدا فشل القلب، كذلك الربو وسرطان الرئة والسكتات الدماغية  .

والواقع أن تخطي أكثر من نوع من الملوثات للمعدل السنوي الاقصى عالميا، يفسر تلك الغيمة السوداء في سماء بيروت التي بإمكان عبود رؤيتها من مكان إقامته في تلال المنصورية ، أو أي مواطن من منطقة عاليه ومحيطها. مشددا على أن لا تمييز لدى زحمة السير ولا لدى الملوثات الناتجة عنها بين جنس أو عمر أو طائفة.

السيارات الخاصة أهم أسباب التلوث 

عادة ما تكون انبعاثات السيارة الواحدة منخفضة، إلا أن كمية هائلة جدا من الانبعاثات الضارة بكوكب الأرض تخرج مع وجود ملايين السيارات في المدن الكبرى. وقد صنفت وكالة حماية البيئة الامريكية  (EPA) قيادة السيارات الخاصة كأهم أسباب تلوث الهواء الجوي في العالم .

أما محليا،  تستوقفنا دراسة أجرتها وحدة الابحاث الاقتصادية في بنك الاعتماد اللبناني. أظهرت الدراسة أن السيارات الخاصة تشكل النسبة الاكبر (أكثر من 86 بالمئة) من أسطول وسائل النقل في لبنان البالغ عدده 1.8 مليون سيارة وآلية. وبحسب البنك الدولي، يُقدر العدد اليومي للسيارات التي تدخل الى بيروت عبر الاوتستراد الشمالي بـ300 ألف سيارة،  فيما يدخل ما بين 150 الف و200 ألف سيارة من المدخلين الجنوبي والشرقي خلال يوم عمل.

مخاطر أزمة السير الصحية 

السير في بيروت
(Lebanon 24)

كشفت دراسة حديثة نشرت على موقع Deutsche Welle في 2 آذار 2018  أن غازات عوادم السيارات تؤثر سلبا بدرجة كبيرة في صحة الأطفال. ورأى الطبيب مايكل كابيش، المتخصص في علم أمراض الرئة وطب الأطفال في مستشفى ريغنسبورغ  جنوبي ألمانيا، أن “مخاطر الإصابة بالربو والحساسية وحساسية القش يمكن أن يتضاعف لدى الأطفال الذين يسكنون بالقرب من الطرق المزدحمة”. 

ووفقا لموقع “فيت بوك” الألماني الذي يعنى بالأخبار الطبية، كشفت دراسة أمريكية حديثة أن السموم البيئية الموجودة في الهواء لا تصيب فقط  الجهاز التنفسي مما قد يسبب سرطان الرئة، وإنما قد تتسبب أيضاً بالإصابة بمرض السكري من النوع 2 . وأوضحت وكالة البيئة الفيدرالية، أن ثاني أكسيد النيتروجين (NO2) والغبار الناعم لا يزال مرتفعاً للغاية في أوروبا. وتعتبر حركة السيارات على الطرق واحدة من المصادر الرئيسية لهذه السموم كما نقل الموقع في 5 تموز 2018 . 

وبينما كنا في لبنان نتحدث عن إصابات  بمرض السكري من النوع 2 فوق ال 50 عاما، ومن ثم فوق ال 45 عاما، ها نحن نرى اليوم إصابات في أعمار ال 27 و30 عاما. “الإحصاءات الأخيرة في لبنان لا تُبشّر بالخير، هناك تفش كبير للنوع  الثاني مقارنة بالأعوام الماضية”، هذا ما أعلنه وزير الصحة جميل جبق في 30 نيسان الماضي .

في المقابل جاء سرطان الرئة  في المرتبة الثالثة بنسبة 9.5 بالمئة  في أنواع الإصابات بمرض السرطان في لبنان بعد سرطان المثانة بنسبة 10.5 بالمئة وسرطان الثدي بنسبة 18.6 بالمئة. واحتل لبنان المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا لناحية الإصابات بمرض السرطان، وفق تقرير للوكالة الدولية لأبحاث السرطان ومنظمة الصحة العالمية والصادر في أواخر أيلول 2018  والذي أظهر أن 242 مصاباً بالسرطان بين كلّ 100 ألف لبناني، وتم تسجيل 17 ألف إصابة جديدة عام 2018، فضلاً عن 9 آلاف حالة وفاة . 

ويتسبب تلوث الهواء، الذي يوصف بأنه “قاتل غير مرئي”، بحوالي سبعة ملايين حالة وفاة مبكرة في العالم سنويا، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وأظهرت نتائج دراسة أجراها علماء من الصين وأستراليا، وتم نشرها في 10 نوفمبر 2018 أن الهواء الملوث يصيب دماغ الإنسان بأمراض مختلفة، أولها التوحد عند الأطفال، كما ويتسبب في 90 في المئة من حالات الاصابة بالزهايمر لدى كبار السن .

كشف الوزير جبق  في 17 نيسان الماضي أنه “بحسب احصاءات منظمة الصحة العالمية،  فإن طفلا واحدا يصاب من بين كل 160 طفلا، أما آخر الإحصاءات عام 2017 فيكشف ارتفاع النسبة إلى واحد على ستين طفلا وهي نسبة جد مرتفعة”. 

المخاطر النفسية 

تأسر أزمة السير المواطنين في سجنها لأجل غير مسمى. وبالتالي القيادة في لبنان تترك لدى المواطنا آثار نفسية تشرحها الجة النفسية سيسيليا ضومط: الكبت والإحباط، والتوتر الشديد والقلق من الوصول متأخر إلى المكان المقصود وبالتالي تلقي إنذار أو عقوبة أو حسم  من الراتب مثلا، والانفعال حيث بتنا نسمع عن جرائم قتل بسبب الغضب الشديد الناتج عن إشكالات على خلفية أفضلية المرور.

وتضيف ضومط: “تراكم الضغوطات النفسية يسفر عن “فشة خلق” كبيرة ، ما يعني توقف عمل العقل نسبيا وارتفاع هرمون الغضب… وصولا إلى الاكتئاب الشديد الذي يساهم رابعا ومع عوامل أخرى بالوصول الى الانتحار”. 

واللافت أن نتائج الآثار النفسية لزحمة السير لا تتوقف هنا بل ترافق المواطن الى مكان عمله،  حيث تخف الانتاجية لديه، أو تولد مشكلات علائقية مع زملائه بالعمل، وأيضا يصدر عنه تمرد وانفعال ونقمة ضد مديره او المسؤول عنه.  وكذلك هذه الآثار تنعكس على الحياة الدراسية عند الطلاب، خصوصا طلاب الجامعات، بالإضافة الى انعكاسها سلبا على علاقة المواطن مع أفراد عائلته داخل منزله. ينتج عنه مشاكل زوجية وعائلية بينها  شتم الشريك وأحيانا ضربه، وقد تصل أحيانا الى الطلاق، توضح ضومط. 

وتشدد ضومط على أن أزمة السير تصنف كإحدى العوامل المساهمة في إرتفاع نسبة اللبنانيين الذين يتناولون أدوية أعصاب، بدليل ما أعلنه وزير الصحة في 18 أيار الفائت بأن: ” 30 بالمئة من اللبنانيين يتناولون ادوية أعصاب بشكل دائم، و30 بالمئة منهم يتناولونها بشكل متقطع، والعدد المتبقي سيصبح مهيئا في وقت قريب لتناول أدوية أعصاب”. فعندما يشعر المواطن بالعجز عن مواجهة المخاطر والضغوطات، يلجأ إلى  الحلول غير التقليدية المتمثلة بالادوية والعقاقير.

السير في بيروت
(REUTERS | Mohamed Azakir)

قتلى وجرحى على الطرق 

لقد حمل العام  الحالي إلى العديد من العائلات اللبنانية أخبارا حزينة جدا ، وتحديدا في أول 24 ساعة منه مع سقوط 3 قتلى و35 جريحا في 29 حادثا، وبالطبع فإن أرواح هؤلاء لا تقدر بثمن، فضلا عن إحتمال أن يكون بعض الجرحى قد أصيبوا بشلل أو بعطب دائم، أو أنهم لا يزالون يتلقون العلاج حتى اليوم.

وقبل سنة 2019، أسدل العام 2018 ستاره على أرقام مخيفة أحصتها غرفة التحكم المروري التابعة لقوى الأمن الداخلي لحوادث السير وضحاياها وهي 4551 حادث سير، أسفرت عن 496 قتيلا و 5948 جريحا؛ كل ذلك هو نتيجة يعكسها لنا عداد الموت على الطرق اللبنانية .

ومن المعروف أنه في الدول الاوروبية التي يتنقل فيها ملايين البشر بواسطة القطارات أو باصات النقل العام، فإن نسبة خطر التنقل بالقطار والباص هي أقل بحوالي 10 الى 20 مرة من التنقل بالسيارة،  والخطر بالتنقل بالسيارة أقل بنفس النسبة من التنقل بالدراجة النارية.

وللتذكير، فقد قدم وزراء الاشغال العامة والنقل والداخلية في بلغاريا استقالاتهم في 31 آب الماضي، بعد  تعرض الحكومة لانتقادات لاذعة بسبب حادث انقلاب حافلة سياحية أوقع 16 قتيلا و 26 جريحا. محليا لم يشهد تاريخ لبنان الحديث إستقالات مماثلة لأي وزير معني على خلفية حادث سير، ولو أسفر عن ضعف حصيلة هذا الحادث . 

الخسائر الإقتصادية 

بالطبع فإن هذه الخسائر التي باتت تشكل عبئا على عجلة الاقتصاد تنقسم إلى مباشرة وغير مباشرة، فالتكلفة الاقتصادية هي الوقت المستقطع الذي يستغرقه التنقل من مكان الاقامة الى مكان العمل داخل العاصمة وهذا الهدر بالوقت ليس بالقليل. وبحسب أرقام أوردتها مبادرة تراكس (Tracs) التي تضم جمعيات متخصصة بالنقل العام أعلنت عنها بداية السنة الحالية، فإننا نقضي 60 في المئة من وقت “المشوار” في فترات الذروة أما متوقفين أو نسير بسرعة بطيئة (تحت ال 30 كيلومتر في الثانية). وذلك بالإضافة الى إستنزاف أعصاب المواطنين وطاقات عديد مفارز السير في مهمات شاقة لتسهيل حركة المرور، بدل تجنيدهم للسهر على تطبيق قانون السير بغية الحفاظ على سلامة المواطنين على غرار الدول المتقدّمة، وفضلا عن تراجع الطلب على العقارات في محيط الزحمة.  

وفي هذا السياق نقلت مجلة “Executive” عن خبير النقل والمواصلات في البنك الدولي، زياد نكت في 11 تموز الماضي، قوله “إنّ التكلفة السنوية لزحمة السير تتجاوز الملياري دولار، ما يمثّل عائقاً كبيراً أمام النمو والاتصال بالمنطقة”، أي حوالي 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، هذا من دون أن نتحدث عن الكميونات المتوقع أن يزداد عددها مرة ونصف في سنة 2025.

كما تحدّثت المجلة عن إرتفاع فاتورة الوقود في لبنان، الذي يساهم بعجز ميزان المدفوعات، مشيرةً إلى أنّ قيمة استيراد لبنان من البترول المكرر في العام 2017 قدّرت بـ3.77 مليار دولار من أصل 20.8 مليار دولار، علماً أنّ الصادرات قُدّرت بـ3.91 مليار دولار.

وفي الختام فإننا إذا لم نتحرك لمعالجة أزمة السير،  فستتحول بيروت الكبرى الى باركينغ كبير للسيارات في سنة 2025، وهنا نطرح سؤالا بديهيا: أولسنا أمام مشكلة كبيرة لمدينة تعد نسبيا عالميا وإقليميا مدينة صغيرة؟