مسرح المدينة في الحمرا (لودي عيسى)

المسرح اللبناني يزدهر بصمت، على الرغم من افتقاره إلى الدعم

التمهيد

أضواء خافتة. همسات تتحول إلى صمت تام. ستائر ثقيلة تفتح لتكشف عن بطلنا المجهول. ها هو واقف على وسط خشبة المسرح، بطلنا لهذه الأمسية: المسرح اللبناني.

ومع الفائض من المعلومات المتاحة لنا اليوم، لا يزال هناك نقص ملحوظ يعاني منه رواد المسرح في لبنان. وفرضية “موت المسرح” مبنية على النقص في الترويج الذي يعاني منه المسرح في لبنان، على الرغم من كونه قطاع منبني على التعاون في الأداء والخبرات المشتركة. ومع ذلك لا يزال المسرح المحلي والمهارات الإبداعية القائمة به بألف خير.

وصرحت الدكتور عليّة الخالدي، وهي محاضرة في المسرح العربي في الجامعة الأميركية اللبنانية كما مخرجة مسرح مخضرمة: “أظن أن المسرح المحلي يزدهر، فهناك الكثير ما يحدث والأفكار لا تنقطع. المجتمع هنا غني والمحيط يوحي بالعديد من الأفكار التي يمكن استغلالها.”

لكنه من الصعب تخيل هذا القطاع المزدهر صامتاً الذي توصفه الخالدي وخاصةً بسبب إنعدام المسرح التقليدية في بيروت. اليوم، هُجرت العديد من المسارح التقليدية التي بُنيت ما بين ١٩٣٠ و ١٩٧٠، فيمر المشاة جانب هذه المعالم التاريخية من دون إعارتها لمحة ثانية، ومن هذه المعالم مسرح بيكاديللي في الحمرا و التياترو الكبير في وسط المدينة.  ولم ينجو إلا عدد ضئيل من المسارح التقليدية، منها مسرح المدينة ومسرح مونو، كما مسرح دوار الشمس و مسرح الجميزة.

بصمود وتمسك، يتأقلم المسرح اللبناني المعاصر مع الصعوبات والتحديات الناتجة عن صغر مساحة المسارح المجهزة. فتحولت أماكن صغيرة مثل المقاهي والصالات إلى مراكز ابداعية ومسارح مؤقتة يتشارك فيها المخرجون والممثلون وكاتبو السيناريوهات وغيرهم من المبدعين أعمالهم. ولكن العائق الأكبر يتخطى حجمه هذه الصالات الصغيرة وهو التمويل.

الفصل الأول: التمويل

مسرح بيكاديللي في الحمرا (لودي عيسى)

تضيف الخالدي، وكانت قد أخرجت العديد من الإنتاجات المسرحية مثل عنبرة و٨٠ خطوة: “عدونا الأكبر هو التمويل”.

وما كان للممثل المستقل ساني عبدالباقي إلا الضحك عندما سؤل عن الدعم الحكومي. فيشرح عبدالباقي، وهو مدرس جامعي بدوام جزئي، عن الصعوبة التي يواجهها حتى كبار المخرجين في الحصول على دعم حكومي لأي عمل كان بإستثناء الإنتاجات التقليدية والإشهارية، وذلك إستناداً إلى خبرته في العمل مع أحد كبار المخرجين. ويقول عبدالباقي: “المعاناة التي واجهها للحصول على تمويل للإنتاج لا تصدق، علماً إنه جزء لا يجزأ من المسرح اللبناني”.

يبحث العديد من المخرجون والمنتجون عن التمويل الإنتاجات الضخمة عن طريق التقديم إلى منح شديدة المنافسة يمنحها ممولون ثقافيون من الدول العربية، ومنها الصندوق العربي للثقافة والفنون كما المورد الثقافي.

وفي ظل غياب حلول أخرى، يلجأ الآخرون إلى تخفيض كلفة الإنتاج إلى الحد الأدنى على حساب جودة هندسة الإضاءة والصوت، وتصميم الأزياء، وبناء المشاهد، وإدارة المسرح عامةً.

فتساوي أشهر من التحضيرات والتمرينات الشاملة أياماً قليلة من العرض للمخرجين الجدد الذين لا يملكون التمويل الكافي ولا ثقة مؤجري صالات العرض لكي يستأجروا المسرح لفترة تتخطى البضعة أيام. وتشرح الخالدي أن العروض المباشرة تحتاج أن تجري لعدة أشهر قبل أن تحقق مدخولاً كافياً من المبيع يغطي كلفة الإنتاج وينتج راتباً لائقاً للمبدعين المشاركين في الإنتاج. أي إنتاج يعادل النفقات مع المدخول يعد إنتاجاً ناجحاً.

منذ عامين، أعلنت وزارة الثقافة عن تطوير خطة تمتد على ٥ سنوات هدفها إستثمار ١٨٠ مليار دولار للتقدم الثقافي في لبنان. وتهدف الخطة إلى بناء مسارح جديدة، كما مكتبات ومتاحف بالإضافة إلى الحفاظ على معالم التراث الثقافي مثل مسرح البيكاديللي وبيت بيروت. قد يضمن هذا الإقتراح نمواً مستداماً في الساحة الثقافية المحلية إلّا أن السياسة اللبنانية لا تضمن التنفيذ. فإنه من شبه المؤكد أن الانتخابات البرلمانية القديمة ستحول تركيز السياسيين نحو قضايا أكبر تجذب المزيد من الناخبين.

تسلط الخالدي الضوء على تقييد التمويل الحكومي أحياناً بإنتاجات وأشخاص معينين، فعندما تواصلت مع وزارة الثقافة لمتابعة عملية التمويل، لم تحصل على أي جواب قط، حتى من باب المجاملة. فتعلق الخالدي: “عليك أن تعرف الأشخاص المناسبين وتكون في الموقع الصحيحة”. يعمل التمويل الإنتقائي كآلية للرقابة، حيث يضمن أن تكتسب المسرحيات قوة جذب للجمهور فقط إذا كانت مقيدة بأساليب وموضوعات وقيم مسرحية معينة.

الفصل الثاني: الرقابة

صورة من التياترو الكبير المهجور في بيروت (لودي عيسى)

تشرح الشبكة الدولية للفنون الأدائية المعاصرة أن النصوص المسرحية تخضع لرقابة مسبقة من قبل الأمن العام نتيجة للتفسير الغامض للنص القانوني الذي تم وضعه قبل أكثر من ٨٠ عاماً وفي وقت أزمات.

تحت فرضية الحفاظ على النظام العام وبدون أي توجيهات واضحة للمراقبة، يتم تحرير أو رفض النصوص التي تحتوي على تعليقات إجتماعية وسياسية أو دينية وذلك إستناداً إلى أهواء وكالة الاستخبارات اللبنانية وضغوط المؤسسات الدينية التي تراجع النصوص التي تحتوي على إشارات دينية.

ويقول عبدالباقي أن التعليقات السياسية الإجتماعية الدقيقة تتجاوز الرقابة في حين أن النصوص الصريحة التي تتناول مواضيع حساسة يتم رفضها. وضمن الحوار، شاركنا الممثل حادثةً طُلب فيها صديقاً له حذف جزءًا من نصه لأنه حاول أن يثبت أن الله إمرأة.

كما واجهت الخالدي أيضاً بعد المشاكل مع الأمن العام بسبب عنبرة، وهي مسرحية تتحدث عن أول إمرأة لبنانية تزيل الحجاب علناً. تستند المسرحية إلى مذكرات عنبرة المنشورة والمعتمدة قانونياً، وهذا ما يكشف مرةً أخرى عن غموض الإرشادات التي يستعين بها الأمن العام. يمنح الإطار السائب للرقابة السلطات مزيداً من الصلاحيات على الأيدلوجيات التي يتم إنتاجها ونشرها على الجماهير الكبيرة، كما يدفع المستثمرين بعيداً عن تمويل العروض المسرحية التي يمكن اعتبارها مثيرة للجدل ويفرض مواهبنا الإبداعية في إتجاه الرقابة الذاتية والهجرة.

ويقول عبدالباقي، مستشهداً بإلغاء قانون الرقابة على المسرح في المملكة المتحدة كأحد الأسباب وراء ازدهار مسرحها: “الحكومة لا تدعم، بل تفرض المراقبة”.

الفصل الثالث: التعليم

صورة من التياترو الكبير المهجور في بيروت (لودي عيسى)

تحتوي المملكة المتحدة، حيث حصل عبدالباقي على الماجستير، على العديد من الموارد التي يمكن لطلاب المسرح والفنون الأدائية استخدمها. من ناحية أخرى، يعاني قطاع التعليم العام في لبنان من نقص شديد في التمويل. فأثبت معهد اليونسكو للإحصاء أن الإنفاق الحكومي على التعليم في لبنان شكل نسبة ٢٫٥ في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام ٢٠١٣، بينما بلغ المتوسط العالمي نسبة ٤٫٧ في المئة.

ويقول الممثل: “الأمر مختلف تماماً هناك”.

لا تنطبق الموارد والأبحاث في الغرب على لبنان، حيث يصعب الحصول على معلومات متعلقة بتاريخ وتطور المسرح اللبناني. كما يكافح طلاب كلية الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانية أحياناً للعثور على بيانات ذات صلة بأطروحاتهم، كما يذكر عبدالباقي.

من حيث الحصول على التجهيزات، يواجه طلاب الجامعة اللبنانية عقبات عدة مقارنةً بطلاب المسرح في الجامعات الخاصة. ففي حين أن الجامعات الخاصة مثل الجامعة اللبنانية الأميركية وجامعة سيدة اللويزة تستطيع تزويد طلابها بالمسرح والمعدات السمعية البصرية الباهظة الثمن، فلا ينطبق ذلك على الجامعة اللبنانية التي تعاني من نقص في التمويل.

على الرغم من هذا النقص في المعدات، تلاحظ الخالدي أن طلاب الجامعة اللبنانية يكتسبون خبرة عملية مهمة لأنهم ُيدرَسون من قبل الأفراد الذين ساهموا في تأسيس حركة المسرح اللبناني المعاصر.

كما أعربت الخالدي عن إحباطها من المناهج المدرسية المحلية التي غالباً ما تؤكد على أهمية العلوم والرياضيات على حساب التعليم المسرحي والفني الشامل الذي يسمح للعقول بالتوسع كما للإبداع بالازدهار.

ووصفت حالات معينة حيث بعض الطلاب الملتحقين ببرامج الفنون الأدائية في الجامعة الأميركية اللبنانية توجهوا نحو المسرح بسبب مسرحية واحدة عرضها لهم مدرس في المدرسة المتوسطة.

من خلال عكس كل من الذات والمجتمع، تقدم الفنون المسرحية مساحة تعليمية للتفكير المشترك الذي يمكن للطلاب الاستفادة منه.

من خلال الدعم والإستثمار المناسبين، يمكن للمسرح أن يقدم مساهمات كبيرة للإقتصاد المحلي. تتحقق البيانات الغربية من مقدار الفوائد والإيرادات التي يمكن أن تحققها الإنتاجات المسرحية في حال وجود ظروف مثالية. يهتم جيل الألفية في الولايات المتحدة بمشاهدة العروض المباشرة أكثر من شراء السلع، بالإضافة إلى أن برودواي صناعة بمليارات الدولار من تلقاء نفسها.

تعد بيروت مركزاً ثقافياً سمح للعديد من الفرق مثل زقاق ومنول بالظهور على مدار السنوات الماضية القليلة وتقديم العديد من التعليقات الإجتماعية والسياسية من خلال أعمالهم الإبداعية. على الرغم من القيود القانونية والمالية، المسرح اللبناني يثابر من خلال تكيف مخرجه وكاتبيه.