Protesters gathered in Downtown Beirut following interrogations by the cybercrime bureau of at least six activists for comments they made via social media in July.

سوزان رحلت .. ولكن انتهاكات المكتب مستمرة

طارت سوزان، لكن ممارسات المكتب ما زالت ثابتة في سلوكها، تحذو الحذو نفسه. ف”تطيير” المقدّم سوزان الحاج من منصبها كرئيسة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية الإلكترونية وحماية الملكية الفكرية في شهر تشرين الأول من العام 2017 لم يغيّر كثيرًا من سلوك المكتب على مستوى انتهاك حرية التعبير، سواءً عبر استدعاء صحافيين وناشطين ومواطنين بسبب مقالاتهم الصحفية أو منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل النشر الإلكترونية. فهل هو نهجٌ يسلكه مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية الإلكترونية، أم أنّ ما خفي كان أعظم؟

في العام 2018 فقط، تمّ استدعاء 41 صحافي/ة وناشط/ة ومواطن/ة للتحقيق بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي (من ضمنها حالات وصور على تطبيق “واتس اب”) من قبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية الالكترونية وحماية الملكية الفكرية، فيما لم يتجاوز العدد التسعة استدعاءات في العام 2017، وذلك بحسب توثيق قامت به منظمة “سميكس”.

أما أغلب التوقيفات فجاءت على خلفية انتقاد “العهد القوي” وعددٍ من الوزراء والشخصيات السياسية والدينية والأجهزة الأمنية. يبدو المكتب (الذي يرأسه حاليا المقدم ألبير خوري) أداة بيد الطبقة السياسية من جهة والسلطات الدينية من جهة أخرى، والمصلحة واحدة، ألا وهي قمع حرية الرأي والتعبير. قمعٌ ليس وليد الصدفة، بل ينذر بوجود قرار سياسي باحتواء أي حركة اعتراضية ولو أتت على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك عن طريق ترهيب الناس،الذي تجلّى خصوصًا في الفترة التي سبقت الإنتخابات النيابية.

ولكن هل يعني هذا الارتفاع المريب في عدد الاستدعاءات في العام 2018 أن أداء المكتب وسلوكه كانا أفضل حالا بعدما اتخذ مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان قرارًا يقضي بنقل الحاج إلى ديوان المدير العام ووضعها تحت تصرّف المدير العام وتعيين خوري خلفًا لها؟

ينفي المسؤول الإعلامي لمؤسسة سمير قصير جاد شحرور هذه الفرضيّة، ويعتبر في مقابلة مع “بيروت اليوم” أن المكتب يستند عمله إلى “نهج غير مرتبط بمن يرأسه”. فمن يُصار الى استدعائهم من صحافيين وناشطين لا يقوم المكتب، في غالبية الحالات، بتلاوة المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية أمامهم. وهي المادة التي تعطي الحق للمشتبه فيه أو المشكو منه، فور احتجازه لضرورات التحقيق، الاتصال بأحد أفراد عائلته أو بصاحب العمل أو بمحام يختاره أو بأحد معارفه. أبعد من هذا الانتهاك لأبسط الحقوق الأساسية، فإن المكتب “يوسّع من صلاحياته خلافا للقانون من خلال إجبار الموقوفين على إمضاء تعهّد بعدم تكرار ما كان قد أورده من تدوينة أو تغريدة أو تعليق أو تعهد بعدم التعرض لسياسي أو رجل دين معيّن، أو إجبار الموقوف على تزويد المكتب بحساب الموقوف على احدى وسائل التواصل الاجتماعي مع كلمة السر لعناصر المكتب، وغيرها من التجاوزات التي تساهم في قمع حرية الرأي والتعبير”.

علمًا أن “التعهّد بعدم التعرض” المشار إليه أعلاه لا يؤدي الى اسقاط الدعوى التي تبقى مستمرة، اضافةً إلى أنه يمكن أن يشكل إقرارًا بأن الصحافي أو الناشط قصد من خلال ما نشره التعرض للشخص الذي تناوله. وتطلب منظمات حقوقية عدة من الصحافيين والناشطين رفض التوقيع على مثل هذه التعهدات.

مظاهرة يوليو ضد انتهاكات حرية التعبير. (حسن شعبان) | جرائم المعلوماتية الالكترونية في لبنان
مظاهرة يوليو ضد انتهاكات حرية التعبير. (حسن شعبان)

على المقلب الآخر، يؤكد مصدر من داخل المكتب ل “بيروت اليوم” أن المكتب لم يقم بأي استدعاء من تلقاء نفسه منذ تولّي تعيين خوري رئيسا له، وكافة الاستدعاءات تمّت بإشارة من القضاء المختص بعد إحالة الملف إلى المكتب. وقد رفض المصدر الردّ على سؤال يتعلّق بقيام المكتب بالتوسع في التحقيق مع الصحافيين والناشطين بشكل مخالف للقانون وإجبار الناشطين على إمضاء “تعهد بعدم التعرض” وخلافه، مشددًا على أنه ينفّذ تعليمات القضاء والنائب العام.

الموقف هذا يجيب على التساؤل الذي طرحناه أعلاه عن تغيّر عمل المكتب قبل وبعد تطيير الحاج من منصبها. في السابق كانت الحاج في حالات عديدة تقوم من تلقاء نفسها بهذه الانتهاكات التي لفت إليها شحرور أعلاه ووثقتها مجموعة من المنظمات المعنيّة بحرية الرأي والتعبير، أما اليوم فيقوم المكتب بهذه الانتهاكات بتوجيه من النيابات العامة!

 لعل أغرب القرارات الصادرة عن النيابات العامة، التي لم يسبق أن صدر مثلها في لبنان وعلى الأرجح في أي دولة أخرى حول العالم، هو قرار المدعية العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون بإجبار المواطن شربل خوري على إغلاق كافة حساباته على مواقع التواصل الإجتماعي لمدة شهر، إضافة لقيام المحققين في المكتب بإزالة كافة المنشورات الساخرة على حسابه الشخصي على فايسبوك، وذلك على خلفية منشور لخوري وتعليق للصحافية جوي سليم عليه. في حين تغاضت عون عن كافة التهديدات التي تعرض لها كل من خوري وسليم على خلفية هذه القضية (بوست ساخر تناول أحد القديسين، وقوبل بتهديدات مباشرة لخوري بالقتل/أو شتمه وعائلته وتهديده بمضايقات….).

وقد جرى توثيق حالة احتجاز قاصر (15 عاما) من قبل المكتب، وذلك بسبب صورة نشرها على تطبيق واتسأب اعتبرت “إهانة للرئيس”، ولكن ماذا عن إهانة الطفولة، ومعاملة القاصرين بنفس معاملة الراشدين؟

من يحرك هذه النيابات العامة؟ في حالة خوري وحالات مماثلة تم فيها انتقاد رجال دين أو سلوكيات معيّنة، كان هناك دور بارز لرئيس المركز الكاثوليكي للإعلام عبده أبو كسم، وفي حالات أخرى تم فيها انتقاد الوزير جبران باسيل أو “العهد القوي” وغيرهما جاء تدخل النيابة العامة بإيعاز وضغط من داخل القصر الجمهوري بحسب ما يؤكد مصدر من داخل النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان.

يؤكد المحامي طوني مخايل، المستشار القانوني لمؤسسة مهارات أن المسؤولية الأساسية تقع على النيابات العامة، التي تأتمر بتوجيهات من مدعي عام التمييز، والذي بدوره يعمل بالتنسيق مع وبتوجيه من وزير العدل. وقد لفت مخايل إلى تعميم سابق لوزير العدل السابق سليم جريصاتي صدر في العام 2017 طلب بموجبه من مدعي عام التمييز والنيابات العام عدم الإدعاء على مواطنين بجرم التعبير على وسائل التواصل الإجتماعي، إلا أن جريصاتي نفسه والنيابات العامة الاستئنافية، ومدعي عام التمييز من بعده، لم يلتزموا بالتعميم.

جرائم المعلوماتية الالكترونية في لبنان | وزير العدل السابق سليم جريصاتي. (YouTube | NDU Lebanon)
وزير العدل السابق سليم جريصاتي. (YouTube | NDU Lebanon)

ويشرح مخايل عن “الدولة البوليسية التي تسعى لترهيب الصحافيين والناشطين عبر استدعائهم الى المخافر وإلى المكتب، في حين ينص قانون المطبوعات بوضوح إلى اختصاصه بالبت في قضايا المطبوعات، التي يفترض أن تحال مباشرة إليه، وإذا كان لا بد من التحقيق الاستنطاقي مع المشكو منه، أن يتم ذلك من خلال قاضي التحقيق”.

واللافت أن النيابات العامة الاستئنافية تتعاطى بإستنسابية مع قضايا النشر والتعبير، حيث تُحيل بعضها إلى “المكتب” والبعض الأخر إلى المطبوعات دون أي تبرير.

وقد سبق لمؤسسة المفكرة القانونية أن طلبت من الصحافيين عدم المثول أمام المكتب، وطلبت إحالة الملف لمحكمة المطبوعات، وذلك بعد أن رضخت في وقت سابق النيابة العامة التمييزية لطلب استرداد ملف قضية الصحافي مهند الحاج علي من مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية لعدم الاختصاص والذي كان قد استدعاه بناء على قضية نشر مقامة ضد مجهول.

المكتب غير قانوني؟

أُنشئ مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية والملكية الفكرية بموجب مذكرة خدمة صادرة عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في العام 2006، وأُلحق بقسم المباحث الجنائية الخاصة في الشرطة القضائية.

وبموجب قانون تنظيم قوى الامن الداخلي رقم 17/90، لا يمكن تنظيم وإنشاء وحدات في قوى الأمن الداخلي إلا بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الداخلية بعد استطلاع رأي مجلس القيادة في قوى الأمن الداخلي، ما لم يتم مراعاته في حالة إنشاء هذا المكتب.

وبالتالي يكون إنشاء مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية مخالف للقانون ويمارس سلطة أمر واقع.

منصّة محال لرصد انتهاكات حرية التعبير على الويب

في 27 شباط من العام 2019 أطلقت منظمة “سمكس”  منصة “مُحال” (muhal.org)، وهي قاعدة بيانات لرصد وتتبّع حالات انتهاك حرية التعبير على الويب.

مُحال هي حملة مستمرّة من “سمكس” لتوثيق التوقيفات والاعتقالات المتعلقة بحرية التعبير على الإنترنت في لبنان. كما تهدف إلى رفع الوعي بهذه القضايا بين منظمات المجتمع المدني والصحفيين والشباب وغيرهم من الجهات المعنية، والضغط على صانعي السياسات لتغيير القوانين، وبخاصة تلك التي تتعلق بالتشهير والذم والقدح والتي كانت السبب في هذه الاعتقالات.

جرائم المعلوماتية الالكترونية في لبنان | Muhal ، منصة لمراقبة الانتهاكات ضد حرية التعبير. (SMEX)
Muhal ، منصة لمراقبة الانتهاكات ضد حرية التعبير. (SMEX)

كما وتهدف “مُحال” إلى إلقاء الضوء على عملية التوقيف الاحتياطي وإنهاء مثل هذه الحالات، خصوصًا فيما يتعلّق بحرية التعبير على الويب.

كما وتسمح المنصة للأشخاص الذي تعرضّوا للتوقيف، أو علموا بتعرّض شخص للتوقيف بسبب مشاركات له على وسائل التواصل الاجتماعي، أن يبلّغوا في الحال من خلال نموذج تم إعداده لهذه الغاية. على أن تقوم سميكس لاحقا بإضافة الحالة الى ملفات المنصة بعد أن يقوم فريق مختص بالتحقق منها.

أكثر من 60 انتهاك اعلامي وثقافي في العام 2018

لبنان دولة بوليسية؟

في العام 2018 وثقت منظمة سمير قصير أكثر من  60 انتهاكًا إعلاميًا وثقافيًا، توزعت بين حجز وتحقيق ومنع أفلام، وأبرز الانتهاكات البارزة كانت صدور ثلاث قرارات بسجن صحافيين في العام 2018 (بحق الصحافية حنين غدار والصحافيين فداء عيتاني وميشال قنبور)، بالإضافة إلى قرار واحد في العام 2019 (بحق الصحافي أدم شمس الدين).

أغلب هذه الانتهاكات كان بطلها مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، في حين وزّعت البقية على جهاز المعلومات لدى الأمن العام، مخابرات الجيش وأمن الدولة.

وقد شهد العام نفسه إقدام الصحافي فداء عيتاني على تقديم لجوء سياسي إلى بريطانيا بعد ما تعرض له من تهديدات سياسية وصدور أحكام قضائية بالسجن ودفع غرامات مالية واستدعائه مرات عدة للتحقيق وذلك على خلفية عمله الصحافي…

لبنان بلد الحريات، لكن عن أيّ حريات نتحدث؟ عن حرية المكاتب والمحاكم باستدعاءنا على “بوست” ننشر فيه رأيًا أو مقالًا؟ وماذا عن حرية الرأي والتعبير التي كفلها لنا الدستور؟ وكم من لجوء سياسي سوف يسجّل لبنان في “العهد القوي” الذي أبى إلا أن يحوّل لبناننا إلى دولة بوليسية؟